تاج الدين عبد الحق يكتب:
إسلاميون بنكهة شيوعية
من آخر ما أوردته التقارير الإعلامية عن الرئيس الكوري الشمالي كيم جونغ أون، نبأ اعتقال السلطات الكورية الشمالية امرأة بتهمة إقدامها -وياللهول- على إنقاذ أطفالها من حريق شب في بيتها، وترك صور الرئيس المحبوب المعلقة في صدر المنزل تحترق، دون وازع ”من ضمير ورادع من التزام“.
فحسب القوانين المعمول بها في كوريا الشمالية يتعين أن تتصدر صور الزعيم الكوري، وأسلافه من الآباء والأجداد الذين توارثوا الحكم منذ انتصار الثورة الشيوعية، منازل الكوريين، وأن تتم المحافظة عليها وتنظيفها باستمرار تحت طائلة العقوبة لمن يخالف ذلك .
لكن الحظ العاثر لتلك المرأة الكورية الشمالية، أوقعها في خيار صعب بين غريزة الأمومة، وبين ما يعتبر التزاما و“تضحية وطنية“ ، . وكانت نتيجة هذه المفاضلة غير المتكافئة، انحيازها لغريزة الأمومة، والهروب بأطفالها عن ألسنة اللهب وإبعادهم عنها، وترك صور الزعيم تتلظى في جحيم النيران .
لم تتناول القصة شجاعة المرأة وهي تنتشل أطفالها من بين النيران، ولكنها تناولت كيف اعتقلت، بعيدًا عن أطفالها الذين كانوا يعانون حروقًا من الدرجة الثالثة، دون أن يكون هناك من يرعاهم بعد أن رفض أقاربها وجيرانها التكفل برعاية الأطفال حتى لا يكونوا شركاء في “ جريمة الامتناع عن حماية صورة الزعيم “ التي اتهمت بها تلك السيدة.
القصة بالشكل الذي نقلته بها وكالات الأنباء بشعة، لدرجة يصعب تصديقها، لولا السوابق المعروفة، والقصص العديدة المنشورة عن حالات إعدام واختفاء قسري لأشخاص ارتكبوا مخالفات عادية، من أبرزها، على سبيل المثال، وزير الدفاع الذي غلبه النعاس في اثناء اجتماع رسمي برئاسة كيم جونغ اون فكان مصيره الإعدام ، أو عم الزعيم الذي ألقي به في قفص لكلاب جائعة بسبب مخالفات بسيطة.
ومع أن العديد من القصص التي يتواتر تداولها قد تكون غير صحيحة أو غير دقيقة، فإن الغموض الذي يحيط بآلية الحكم في كوريا الشمالية، وطابع القداسة الذي يحظى به الزعيم الكوري، ووالده من قبله، وجده المؤسس كيم إيل سونغ، يغذي- باستمرار- الخيال الإعلامي للدول التي تناهض الحكم في الشطر الشمالي لكوريا.
بل إن هذه القصص شكلت إضاءه مستمرة، على عمل روائي باهر للكاتب الإنجليزي جورج ارويل، وهي رواية“ 1984 “ والتي صدرت عام 1948، وتقوم على خيال سياسي، يتناول الكيفية التي تتسلط فيها الأحزاب العقائدية، والدول الشمولية، على الحريات الشخصية والأفكار الفردية، وبدرجة تتدخل فيها، حتى بوقائع التاريخ من خلال تشكيله وتزييفه بما يتناسب مع أدبيات الحزب وأفكاره، ويصل هذا التزييف حد حرق وإتلاف الوثائق واستبدالها بوثائق جديدة تسمح بتقديم روايات مختلفة باستمرار، تتغير فيها أدوار الأشخاص، وتتبدل معها المفاهيم والأفكار .
وقد شكلت قصة الحب العقدة الدرامية في الرواية، وجسدت النهاية المأساوية التي انتهت إليها، قدرة السلطات على مراقبة الفكر من الداخل، ومنع تحوله إلى أي شكل من أشكال الفعل .
أهمية الرواية التي تم استغلالها في الدعاية ضد الشيوعية والدكتاتورية الشمولية، أنها تتسع لاستيعاب أشكال أخرى من السيطرة الفكرية، التي لا ترتبط بجغرافيا محددة ولا بزمن محدد .
ففي الرواية، هناك ما يمكن أن نجده في عالمنا العربي والإسلامي الذي سيطرت فيه الخرافة والأسطورة على بعض المفاهيم الدينية، وألبستها هالة من القداسة والحصانة التي حمتها، وأبقتها سيفًا مسلطا على حرية الفكر، وسلاحًا من أسلحة الإرهاب الذي مارسته بعض الجماعات باسم الدين، وأخفت تحت عناوينه، الكثير من المصالح، والمنافع .
الممارسات التي تجري في كوريا الشمالية، بغض النظر عن صحتها، أو دقتها تعطي باستمرار المجال لاستدعاء تلك الصورة من التسلط والإرهاب الذي تمارسه الأحزاب الشمولية، لا في الساحات التقليدية المعروفة بل لدى الكثير من الأنظمة، والتيارات والأحزاب والجماعات في العالم الثالث التي تمارس أشكالًا مختلفة من التسلط والإرهاب، بأنْ أصبحت تلك الممارسات ماركة مسجلة لكل أشكال القمع والسيطرة الفكرية حتى لو اختلفت المسميات وتباعدت المسافات .