د. ابراهيم ابراش يكتب:
ماذا بعد هوجة التنديد بصفقة ترامب-نتنياهو؟
أن ينشغل العالم بوباء الكورونا لا يعني أن السياسات العامة للدول ستتوقف، لأن الوباء حالة عابرة سيتم محاصرتها في نهاية الأمر بينما الشأن العام والمصالح الاستراتيجية للدول مستمرة، وهذا ينطبق على الصراع في الشرق الأوسط حيث انتشار الوباء لم يؤثر على استمرار الصراع والحرب على كافة الجبهات، وفي فلسطين الخشية أن توظف إسرائيل الانشغال بالكورونا لتنفيذ مخططاتها في تنفيذ ما يخصها من صفقة ترامب–نتنياهو وخصوصا ضم الأغوار والمستوطنات، وهذا يتطلب فلسطينيا عدم جعل هوجة أو رِهاب الكورونا حائلا أمام التوافق على استراتيجية وطنية لمواجهة الصفقة أو أن تصبح حالة الطوارئ حائلا أمام أي نشاط أو فعاليات لمواجهة الصفقة، كما يتطلب عدم التوقف عن الحديث عن الصفقة ومخاطرها.
سبق أن كتبنا وقلنا إن الرفض لوحده لا يكفي للرد على الصفقة التي يعتبرها الجميع وعلى رأسهم القيادات السياسية أنها تهدف لتصفية القضية الفلسطينية، ولا يمكن قبول التحليلات التي تبحث عن أعذار للطبقة السياسية في عدم ردها العملي على الصفقة وضرورة منحها مزيدا من الوقت، وذلك لأن معالم الصفقة كانت واضحة منذ وصول ترامب للسلطة كما أنها تنفذ عمليا على الأرض منذ سنوات على مرأى ومسمع من الجميع، وكل متابع ومُلِم بمجريات السياسة في المنطقة يعلم أن أية تسوية سياسية ستكون أكثر سوءاً من تسوية أوسلو لأن المتغيرات الدولية والعربية والفلسطينية خلال العقود الثلاثة الماضية كانت تشي بذلك.
حالة العجز والفشل التي يمر بها النظام السياسي الفلسطيني وطبقته السياسية، والذي يتقاسم السلطة في غزة والضفة، هذه الحالة المصحوبة بغياب حراك شعبي أو قوى سياسية معارضة ذات تأثير سواء في غزة أو الضفة، وبحالة رضا نسبي على الطبقة السياسية من إسرائيل وأميركا وقوى إقليمية بالرغم مما نسمعه من تهديدات وتوتير في الخطاب، هذه الحالة وفي ظل هذه المعطيات تتيح دائما فرصة للطبقة السياسية لافتعال هوجة إعلامية وانفعالية وعاطفية لتخفي عجزها وفشلها ولتتخطى الأزمات والتحديات بأقل الخسائر الممكنة، بل وتخرج "منتصرة"، والانتصار هنا يعني استمرارها في السلطة.
هذا ما يجرى منذ انكشاف مأزق السلطة ومراهناتها على التسوية السياسية الأميركية، ومأزق حركة حماس وتوابعها من التنظيمات الذين رفعوا شعار المقاومة بديل عن نهج السلطة والتسوية السياسية.
هوجة بعد كل توقيع اتفاق مصالحة وبعد تشكيل كل حكومة، وهوجة بعد كل عدوان إسرائيلي على غزة، وهوجة بعد إعلان الرئيس أبو مازن عن عزمه إجراء انتخابات عامة من على منبر الأمم المتحدة حيث حدثت هوجة لعدة أيام ثم نسى الجميع موضوع الانتخابات وخرجت الطبقة السياسية وقد انقذت رأسها من مقصلة الانتخابات، وهوجة رفض صفقة القرن، ويبدو أن الطبقة السياسية ستخرج بعدها منتصرة بعد بطولاتها في مجال الخطابة والرفض والتنديد، والآن هوجة الكورونا وحالة الطوارئ.
لا شك أن كل الشعب والأحزاب رفض الصفقة على عكس اتفاقية أوسلو التي انقسم الشعب والنخب السياسية حولها، ولكن وحتى لا تتحول حالة الرفض لمجرد هوجة أو زوبعة في فنجان لا بأس من توضيح بعض الأمور لمن عنده مراهنة بإمكانية التعامل مع الصفقة من باب المناورة والتكتيك أو إمكانية أن تحقق شيئا للفلسطينيين أو أن الصفقة ستفشل تلقائيا لمجرد رفض الفلسطينيين لها:
الصفقة أكثر سوءاً من اتفاقية أوسلو لأنها سبَّقت وحسمت بقضايا الوضع النهائي – القدس واللاجئين والحدود – لصالح إسرائيل ويجري تنفيذ ومنح ما لإسرائيل من الصفقة قبل أن تبدأ المفاوضات على الحل النهائي، أما ما يخص الفلسطينيين كالدولة والمكاسب الاقتصادية فسيكون محل مفاوضات سيكون مصيرها الفشل كمفاوضات تسوية أوسلو.
الصفقة تعكس تحولات في السياسة الأميركية وفي الدولة العميقة وفي المجتمع الأميركي تجاه القضية الفلسطينية، والرئيس ترامب لم يأت من الشارع ليصبح رئيساً بل صنعته الدولة العميقة لتحقيق أهداف محددة كما صنعت من قبله أوباما لتحقيق أهداف تتعلق بتلك المرحلة.حتى في حالة عدم إعادة انتخاب ترامب فالموقف الرسمي الأميركي لن يتغير كثيراً بالنسبة للصراع في الشرق الاوسط.
تضليل حل الدولتين في صفقة ترامب. الدولة في تعريفها القانون تتكون من ثلاثة عناصر لا تكون دولة بدونها وهي الأرض والشعب والسيادة، والدولة الفلسطينية التي تتحدث عنها الصفقة تنتقص من العناصر الثلاثة، فأرض دولة الصفقة ليست فلسطين حتى في حدود قرارات الشرعية الدولية، والشعب الذي تتحدث عنه الصفقة ليس كل الشعب الفلسطيني بل أقل من نصفه حيث يتم تجاهل اللاجئين، كما أن الدولة ستكون دون سيادة، والدولة دون سيادة ليست دولة.
إن اقتصر الموقف الفلسطيني عند حد الرفض الشعاراتي دون استراتيجية وطنية للمواجهة فلن يُوقف هذا تنفيذ الصفقة، وحتى إن فشلت التسوية على أساسها فإن بقاء الأمور على حالها: الانقسام، كيان في غزة، تآكل السلطة، استمرار الاستيطان، ضم أجزاء من الضفة، مواصلة التطبيع العربي مع إسرائيل، هو أسوء من الصفقة وإسرائيل ستكون الفائزة في الحالتين.
القرارات والتهديدات الصادرة عن السلطة ومنظمة التحرير لمواجهة الصفقة والتي تتضمن وقف العمل بالاتفاقات الموقعة مع إسرائيل أو تغيير وظيفة السلطة أو التنسيق الأمني لم يتم تنفيذها، كما أن كل تهديدات حركة حماس وفصائل المقاومة برد صاعق على صفقة القرن لم نرى منها شيئاً، بل يتزامن تطبيق الصفقة مع تكريس الانقسام وتثبيت الهدنة والمقايضة على المقاومة بالمال وبعض الوعود بتسهيلات من إسرائيل تقدمها اليوم وتتراجع عنها غداً.
ما حد من قوة التصدي الفلسطيني للصفقة أنه خلال سنوات الانقسام تم إضعاف حصانة المجتمع وروح المقاومة من خلال استراتيجية الإلهاء وكي الوعي والتدجين، بالرواتب ومشاكلها، المساعدات الخارجية وشروطها، تفقير الشعب وتجويعه وارهاقه بالقروض وأقساطها، مشاكل الكهرباء والغاز والمعابر، الانقسام، التراشق الإعلامي والتخوين والتكفير، بالإضافة إلى الاحباط من الوضع العربي والإسلامي.
بالرغم من الرفض المُعلن، يبدو أن الشق الاقتصادي من الصفقة يتم تطبيقه بهدوء. فبعد أن كانت السلطة على وشك الانهيار بعد وقف إسرائيل لأموال المقاصة وقطع واشنطن لمساعداتها مما ترتب عليه صرف نصف رواتب الموظفين في الضفة وغزة، وبعد أن كانت الأوضاع في غزة كما سلطة غزة على وشك الانهيار بعد وقف دخول الأموال القطرية، فجأة يتم تحول أموال المقاصة وتسارع عدة دول لدعم السلطة وتعود الرواتب كاملة وبأثر رجعي مع زيادة عدد المستفيدين من مساعدات الشؤون الاجتماعية، كما تدفقت الأموال القطرية لغزة، بالتأكيد كل هذا كان بعلم وموافقة تل أبيب وواشنطن.
هناك تحركات وصراعات ومؤامرات داخل النخب السياسية، إن كان بعضها يهدف لإعادة بناء الحالة الوطنية لمواجهة الصفقة، فهناك في المقابل من يعملون لتهيئة الأوضاع للتعامل مع الوضع الجديد الذي سيترتب عن تنفيذ ما تبقى من الصفقة.
غياب أي حراك عملي للرد على الصفقة حتى في حدود الدعوة للقاء وطني للبحث في مخاطرها وإنهاء حالة الانقسام يثير شكوكا حول جدية رفض الطبقة السياسية ويعزز شكوكا مقابلة بأن هناك أطرافا مستعدة للتعامل مع الصفقة وتنتظر دورا لها بعد انتهاء هوجة الرفض والتنديد، وهي هوجة بدأت تخف بالفعل حيث غاب الحديث عن الصفقة ومخاطرها في وسائل الإعلام العربي والدولي حتى الفلسطيني الذي ينشغل اليوم بالحكومة الإسرائيلية التي سيتم تشكيلها وبوباء كورونا وحالة الطوارئ، والكل ينتظر قرارا إسرائيليا بضم الاغوار والمستوطنات لبدء هوجة إعلامية جديدة.