علي الصراف يكتب:

النهاية هي نفسها.. فاغسل يديك

قال كورونا ما لم يقله أحد: اغسل يديك. ولكن من ماذا؟ وهل حملت اليدُ ما حملت حتى تُبلى بعدو شرس، يتخفى فيتسلل دون أن يدرك مراميه أحد؟

ولقد حشرنا في زاوية لم نحشر بمثلها من قبل. وأغلق على معظمنا الأبواب، وأخاف البشر من بعضهم، وأبعد الأقارب والأصدقاء، وأخافهم حتى من مقابض الأبواب، ومن الريح إذا هبّت، وكشف في العزلة من النفوس ما لم يُكشف، ومن الرضا ما لم يُطلْ. لتوجز على نحو مبهر ما يعجز الأدب عن إيجازه. ووضع الجميع في خندق واحد. حتى لكأنه قال، إن كنت ممن يتأبطون شرا أو يتربصون قبحا، فاغسل يديك من كل ما تلطخت به من صغائر أو كبائر. فالنفس التي ضاقت بالضغينة والكراهية والحسد أو الكذب والنفاق، أو الإساءة أو الغش، وكل المخادعات الأخرى، قد لطخت يديك بما لم تزله معقمات الرشد ولا النصيحة ولا الدين. فاغسل يديك. فقد جاء وقت الصابون، لتتعرف عليه. إن هو إلا صديق.

وإن كنت مسؤولا في حكومة جماعات طائفية فاغسل يديك مما أصابها من طين الفساد. أو كنت ميليشياويا تابعا لولي فقيه، فاغسل يديك من دم الذين قتلتهم، أو كنت إخوانيا، فاغسل يديك من شعب خُنْتَه ووطن أهنته وضحايا تسببت بقتلهم، أو كنت حزبيا على فكرة عمياء، فاغسل يديك مما لم تبصره عيناك ولا بصيرتك. أو كنت ثريا تنفق على جماعات هدم وتفتيت وتخريب، فاغسل يديك.

هذا كورونا يناديك. فالنهاية واحدة. ولا بد من قبل الوصول إليها، أن تغسل يديك. أن تتطهر مما حملت. وأن تضع الحمل كله، خيره وشره، كامله وناقصه، ما قلته وما لم تقله، ما فعلت وما لم تفعل، ما قدّمت وما أخّرت، لكي تأتي النهاية كما يحسن أن تأتيها طاهر اليدين، إن لم يكن خوفا من فايروس، فخوفا مما تركت خلفك.

هي النهاية نفسها. العدو الذي يلاحقنا في كل مكان، والذي يجرؤ على أن يحشرنا خلف أبواب مغلقة، ليس عدوا فقط. إنه دعوة جامعة أيضا، لكي يغسل الكلّ يديه.

بل وقد يمكن أن تغسلها من الدنيا كلها، بكل ما رفعت وما أخفضت. وبكل ما أعطت وما أخذت. إذ لا شيء يستحق فيها أن تعبر الحاجز، مصابا أو متعافيا، وأنت تحمل وزرا.

فإذا واجهت باطلا أو وجّهته، فاغسل يديك. وإذا فزت بجائزة أو خسرتها فاغسل يديك، وإذا لقيت صديقا أو عدوا فاغسل يديك، وإذا لقيت خيرا أو لقيت شرا فاغسل يديك، لأنه ما من شيء يبقى، ولأنه ما من مال ولا خوف ولا حب ولا فقر ولا غنى، إلا ويمضي، لتقف أمام النهاية وحيدا. أنت والصابون.

لا شيء يُغني في ساعة الشدة إلا ذاك. كورونا هو ربما ساعة الحقيقة الأخرى التي جاءت لتطلب تطهرا من كل شيء، وإخلاصا في كل شيء، ومحبة لكل شيء، ونزاهة وروحا تتطهر، وتعاونا على الخير والعمران.

كل التقدم العلمي والتكنولوجي يقف أمامه اليوم حائرا وعاجزا. إلا الصابون.

ولقد “تقدمت” البشرية كثيرا. هكذا نعتقد. ولكن أتراها تقدمت فعلا؟ نحن منذ أن قتل قابيل أخاه هابيل ونحن على الطباع ذاتها. لم تنفع التكنولوجيا، ولا ظهر العلم قادرا على تغيير إلا القليل من المسالك، ولا هو كبح الكراهية ولا وضع حدا للتمييز ولا كفّ عن الجرائم. وما تزال البشرية تفسد في الأرض وتسفك الدماء وكأن شيئا لم يكن. بل إن “التقدم العلمي” المزعوم زادها وحشية، وفاقم الفقر، وأفسد في موازين الأرض والسماء، حتى خرق الأوزون. هذا عالم لا سلاح لك فيه أفضل من الصابون. فاغسل يديك.

ولقد لوثنا أنهاره وبحاره بأحماض المصانع والبلاستيك. وجعلنا الظلم يطغى بين أيدي الظالمين. وجعل البعض منا الدجل في الدين رزقا له، فأفسده بالسياسة، كما أفسد السياسة بالدين، فاغسل يديك. ولئن وجدت نفسك “معتدلا” في ما أفسدت، أو كنت متطرفا أو غلوائيا أو طائفيا، فاغسل يديك. إذ لا طاهر في هذا المستنقع، إلا وكان وسخ العمامة، وسخ ما تحتها.

ولئن جارك الجور، أو تمنيت أن يقع أحد، أو يخسر تجارته أحد، أو يُضار بعلة أحد، فاغسل يديك.

إنها هي النهاية ذاتها، إذا أصابت الطيب والشرير، الطاهر والفاجر، العادل والظلوم، العاقل والمجنون. وإذ لن تأخذ قشة مما جمعت أو مما اجتمع عليك أو فيك أو لديك، فاغسل يديك. فإلى ربك المنتهى.

إنما الدنيا متاع الغرور. فانتهز الفرصة بما توفر لك، كي تغسل يديك. وتظل تغسلها حتى تخرج شخصا آخر. فلا تمشي في الأرض مرحا، لأنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا.

لقد علّمنا فايروس كورونا الكثير من الدروس، وأتاح لنا أن نرى ما لم يكن بوسعنا أن نراه. الأنظمة الصحية فقيرة، وتنقصها أبسط المعدّات. والعلم نفسه لم يتقّدم بعد إلى المستوى الذي كنا نتباهى به. والاقتصاد أكثر هشاشة من أن يتحمل صدمة إغلاق. والسياسيون يتخبطون أكثر مما يخططون. ويتلقون نصائح من مستشارين واثقين من أنفسهم، ولكن لا تجدر الثقة بهم. والتضامن بين الدول ما يزال هدفا بعيد المنال. وثمة من يصنع بفشله القدر، ويدعو ضحاياه إلى أن يؤمنوا بالقدر.

 والاتحاد الأوروبي ليس موحدا على وجه الحقيقة. والولايات المتحدة ليست أقوى دولة في العالم، وهي قوية فقط بطباعة النقود، ورميها على الكوكب ليتحمل المسؤولية عنها ويحل مشاكله معها. والفقراء الذين كانوا يدفعون نصف مداخيلهم كخدمة لديون الأغنياء عليهم لم يعد لديهم ما يدفعون. والعالم واحد بدرجة لم تكن بالحسبان. والبشرية أمة واحدة في المرض كما في الاقتصاد، ولكنها ليست واحدة في الموارد والإمكانيات. وهناك أثرياء أكثر مما يجب، كما أن هناك فقراء أكثر مما يجب أيضا. وإن الثراء المادي، لا معنى له، والمليارات لا قيمة حقيقية لها عندما تكون بحاجة إلى جهاز تنفس اصطناعي بسعر 200 دولار ولا تجده. وقد لا تساوي حياتك قيمة كمّامة بنصف دولار.

وها نحن نحتاط، ويضرنا حتى تحوطنا نفسه، فلا نعرف ماذا نختار.

كورونا، أفهل تظنه عدوا شرسا، لا تراه العين، يتخفى أو يتسلل ليصيب ويؤذي أو يقتل. لا يُفرّق بين الناس، لا في أعمالهم ولا في أعمارهم، ولا في طبائعهم ولا في ما يملكون أو لا يملكون؟

أفهل تراه جائحا وجامحا لم تقدر عليه الدبابات ولا المدافع ولا الصواريخ؟ أفهل تراه وحشيا يُضعف القوي ويُذل المغرور ويهزم المقتدر؟

إنه، على وجه الحقيقة، أضعف من رغوة الصابون. فاغسل يديك.