د. صبحي غندور يكتب:
دروس من الهزيمة والانتصار!
بفارق زمني بسيط، يعيش العرب ذكرى مناسبتين هامّتين في التاريخ العربي المعاصر. الأولى، هي مناسبة ذكرى تحرير جنوب لبنان من الاحتلال الإسرائيلي في 25 أيار/مايو 2000، والثانية، هي مناسبة ذكرى 5 حزيران/يونيو 1967.
ورغم أنّه من حيث الشكل هناك تناقض بين الاحتفال في لبنان بالنصر على إسرائيل وبين ذكرى هزيمة العرب في حرب عام 1967، فإنّي أرى تطابقاً وتكاملاً بين المناسبتين، ليس فقط في طبيعتهما المتّصلة بالصراع العربي/الصهيوني، ولكن أيضاً في منهج التعامل مع هذا الصراع بوجهيْه السياسي والعسكري.
فرفض لبنان طيلة عقدين من الزمن (منذ الحرب الإسرائيلية على لبنان عام 1982 وحتى عام 2000) لشروط "السلام" الإسرائيلية وللصلح معها، وتأكيد لبنان – حكومةً وشعباً - على حقِّ مقاومة الاحتلال، كان انسجاماً طبيعياً مع ما وضعه جمال عبد الناصر عقب حرب 67 من استراتيجيّة لإزالة آثار العدوان، تلك الاستراتيجية التي قامت على الجمع ما بين مقرّرات قمّة الخرطوم عام 1967 الرافضة للمفاوضات المباشرة، وللصلح والاعتراف بإسرائيل، وبين حرب الاستنزاف التي قامت بها القوّات المصرية على جبهة السويس لأكثر من عامين، وإلى حين وفاة ناصر عام 1970.
فالقيادة الناصرية لمصر كانت قد أدركت بعد هزيمة عام 1967 أهميّة إعطاء الأولويّة الكاملة للصراع مع إسرائيل، وأنّ هذا الصراع يقتضي تكاملاً بين هذه العناصر الثلاثة:
1- بناء تضامن عربي فعّال يضع الخطوط الحمراء من جهة (كمجموعة لاءات قمة الخرطوم) حتى لا ينزلق أيّ طرفٍ عربي في اتفاقيات منفردة، والتوقف عن كلّ الصراعات العربية/العربية والمعارك الهامشية بين العرب. فالتضامن العربي إنّما يكون فاعلاً حينما لا يكتفي بترديد ما هو "مرفوض" بل حين يضع الخطط لما هو مطلوب إنجازه في المعركة..
هكذا كانت قرارات قمّة الخرطوم عقب هزيمة 67، هي الأرضيّة الصلبة للدعم العربي الذي تقرّر لدول المواجهة ولمنظمة التحرير الفلسطينية. وقامت حصيلة ذلك جبهة عربية واسعة جمعت "دول النفط" مع "دول المدفع" في إطارٍ تضامنيٍّ عام، ساعد على إعادة بناء القوات المسلحة المصرية وخوضها لمعارك حرب الاستنزاف على الجبهة المصرية، ثمّ كان هذا التضامن ذاته وراء القرار في حرب تشرين الأول/أكتوبر عام 1973، الذي جمع بين استخدام السلاح والاقتصاد والسياسة، فكان قرار حظر النفط متساوياً في أهمّيته مع قرار المواجهة العسكرية مع إسرائيل.
2- بناء جبهة داخلية متينة لا تستنزفها صراعات طائفية أو فئوية، مع إعادة بناءٍ كاملٍ للقوات المسلحة واعتماد عنصر "الكفاءة" لا "الولاء" في مواقع المسؤولية داخل الدولة عموماً، والجيش خصوصاً. وكان نموذج هؤلاء الشهيد الفريق عبد المنعم رياض (الرئيس السابق لأركان القوات المسلحة المصرية) أحد شهداء حرب الاستنزاف على الجبهة المصرية عام 1969.
3- بناء أهداف سياسية مرحلية لا تقبل التنازلات أو التفريط. فقد رفض جمال عبد الناصر إغراءات التسوية كلّها مع إسرائيل، بما في ذلك العرض الأميركي/الإسرائيلي له بالانسحاب الكامل من كلّ سيناء مقابل عدم تدخّل مصر في الجبهات العربية الأخرى، وإنهاء الصراع بينها وبين إسرائيل (هذا ما فعله أنور السادات فيما بعد باتفاقية كامب ديفيد). وكان ناصر يردّد "القدس والضفة وغزه قبل سيناء، والجولان قبل سيناء"، و"لا صلح ولا اعتراف بإسرائيل ما لم تتحرّر كلّ الأراضي العربية المحتلّة عام 1967، وما لم يحصل الشعب الفلسطيني على حقوقه المشروعة".
وأصرَّ ناصر على هذه الأهداف السياسية رغم قبوله بالقرار 242 الصادر عن مجلس الأمن عام 1967، ثمَّ لما كان يُعرَف باسم "مبادرة روجرز" الأميركية في صيف عام 1970، وكان يتحرّك دولياً في مختلف الاتجاهات (رغم ظروف الحرب الباردة واضطراره لعلاقةٍ خاصّة مع موسكو) دون تفريطٍ أو تنازلٍ عن قراره المستقل في ظل الالتزام بالأهداف السياسية المرحلية، وبشكلٍ متزامنٍ مع البناء العسكري والمعارك المفتوحة على الجبهة المصرية (حرب الاستنزاف)، ومع أقصى درجات التضامن العربي والدعم المفتوح لحركة المقاومة الفلسطينية.
هكذا جعل عبد الناصر من هزيمة عام 1967 أرضاً صلبة لبناء وضعٍ عربيّ أفضل عموماً، مهّد الطريق أمام حرب عام 1973، فكانت 6 سنوات (من 1967 إلى 1973) مليئة بعوامل البناء والمواقف الصلبة التي أعادت للأمَّة المهزومة اعتبارها وكرامتها.
بعد وفاة جمال عبد الناصر، وبعد اتفاقية كامب ديفيد التي وقّعها أنور السادات مع إسرائيل بإشرافٍ أميركيّ كامل، تحقّقَ لإسرائيل مطلب "عزل مصر" فاستفردت بالمشرق العربيّ واجتاحت لبنان مرّتين (عام 1978 وعام 1982)، واحتلّت أوّل عاصمةٍ عربية (بيروت) بعد أن حاصرتها لأشهرٍ عديدة، ولم تتوتَّر الجبهات العربية الأخرى ولم تحصل حرب إقليمية شاملة، بينما كانت أحد أهم أسباب حرب 1967 هي تهديدات إسرائيل لسوريا وتحرّك ناصر لمواجهة هذه التهديدات!!.
وقد كان اجتياح لبنان وعاصمته بيروت أشبه بسلّة أهدافٍ متنوعة لإسرائيل (ومن خلفها الولايات المتحدة). فالمستهدَف كان في آنٍ واحد: لبنان وسوريا والمقاومة الفلسطينية، حيث في إضعاف هذه القوى الثلاث إضعافٌ للمشرق العربي كلّه ودفعه إلى الصلح مع إسرائيل والاعتراف بها والتنازل غير المشروط لها، إضافةً إلى ما يعني ذلك كلّه من هزيمةٍ عربيةٍ عامَّة تُظهِر العجز العربيَّ المطلق، وأيضاً العجز الدوليَّ بكلِّ ما فيه من قوىً كبرى (باستثناء أميركا حتماً)، حيث لم تفعل موسكو (وكانت آنذاك عاصمة القطب الدوليّ الآخر وقائدة المعسكر الاشتراكي كلّه) أيَّ شيءٍ يمنع أميركا وإسرائيل من الاستفراد بحلفاء موسكو (سوريا ومنظمة التحرير) على أرض لبنان.
أيضاً، كان العالم الإسلاميّ مشغولاً في حربٍ طاحنة أشعلها حكم صدام حسين مع إيران عقب ثورة الخميني، ووضعت العراق وأمَّته العربية والعالم الإسلامي في حربٍ مدمِّرة لثمان سنوات (كانت الحرب العراقية/الإيرانية مستعرة حينما احتلّت إسرائيل لبنان عام 1982)، ثم أدخل نظام صدام حسين العراق والمنطقة من جديد في حربٍ أخرى قام بها الحكم العراقي بعد غزوه الكويت عام 1990 ودفع ثمنها باهظاً الشعب العراقي وكل العرب.
هكذا بدأت حقبة التسعينات بجملةٍ من الوقائع السلبية في المنطقة العربية كانت في أساسها حصيلة توقيع "سلام" مع إسرائيل ما كان يجب أن يحصل (كامب ديفيد)، وحصيلة "حروب" ما كان يجب أن تقع (حروب الحكم العراقي ضدَّ إيران أولاً ثمّ احتلال الكويت).
ولا أعلم لِمَ يحلو لبعض العرب إرجاع سلبيات أوضاعهم العربية الراهنة إلى هزيمة عام 1967، ولا يعودون بها إلى أسبابها الحقيقية التي حصلت بعد حرب تشرين/أكتوبر 1973 والتي كانت مزيجاً من اتفاقيات "سلام" مع إسرائيل و"حروب" مع غير إسرائيل !!
فمحصّلة هذه "الاتفاقيات" و"الحروب" كانت وما زالت المسؤولة عن سلبيات الواقع العربيّ الراهن، وعن تداعيات "مؤتمر مدريد" والاتفاقيات المنفردة التي استتبعته، وكان أخطرها طبعاً "اتفاق أوسلو" الذي أعطى لإسرائيل الاعتراف الفلسطيني بها والصلح الفلسطيني معها والتعهّد لها بعدم المقاومة (بل التعهّد بضرب المقاومين)، وذلك كلّه مقابل اعتراف إسرائيل بسلطة قيادة منظمة التحرير وليس بحقوق الشعب الفلسطيني في حرية الأرض أو بالدولة المستقلة أو بحق العودة!!.
وقد رافق هذه المسيرة الرسمية العربية الانحدارية قمع العديد من الأنظمة العربية لحركات المعارضة السياسية بشكلٍ عام، وانعدام البناء الدستوري السليم الذي يكفل التحوّل السياسي والاجتماعي السلمي في كلّ بلد، في ظلِّ فشل قوى المعارضة العربية في بناء نموذج سياسي صالح ليكون بديلاً أفضل من الواقع الرسمي، وارتباط بعض هذه القوى بجهات أجنبية واستخدامها للعنف المسلّح كوسيلة للتغيير. كذلك اتّسمت تلك المرحلة بتصاعد التيّار الإسلامي السياسي، دون وضوحٍ في رؤيته وفكره وبرنامج عمله السياسي البديل، وفي مناخات دولية وإقليمية و"فتاوى" تشجّع على العنف المسلّح وعلى الصراعات والإنقسامات داخل المجتمع الواحد، كما ظهر ذلك في تفاعلات الحروب الأهلية العربية طيلة السنوات الماضية وبروز ظاهرتي "القاعدة" و"داعش" وأخواتهما.
ولم تكن هذه التداعيات السلبية في التاريخ العربي المعاصر منفصلةً عن مجرى الصراع العربي/الصهيوني الممتد لحوالي مائة عام، ولا هي أيضاً مجرّد تفاعلات داخلية عربية "الخارج" منها براء، فهي تداعياتٌ سلبية خطيرة حدثت وتحدث في المنطقة العربية وجوارها الإقليمي منذ خروج مصر من الصراع العربي/الإسرائيلي، كان منها ما هو بفعل ظروفٍ وسياسات خاطئة محلية أو بسبب تخطيطٍ وعدوانٍ خارجي، أو مزيجٌ من الحالتين معاً. فمن الحرب الأهلية اللبنانية التي اشتعلت في العام 1975، والتي تورّطت بها سوريا ومنظمة التحرير الفلسطينية ودول عربية عدّة، إلى الحرب العراقية/الإيرانية في العام 1980، إلى الغزو الإسرائيلي للبنان واحتلال بيروت في العام 1982، إلى غزو نظام صدام حسين لدولة الكويت في صيف العام 1990، إلى حرب الخليج الثانية في العام 1991، إلى مؤتمر مدريد وتوقيع اتفاقية "أوسلو" بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية في العام 1993، إلى انعكاسات هجمات سبتمبر في الولايات المتحدة عام 2001، إلى الغزو الأميركي/البريطاني للعراق في العام 2003، وإلى الحروب الإسرائيلية على لبنان والأراضي الفلسطينية المحتلّة في أكثر من محطّة زمنية خلال العقد الماضي، وصولاً إلى ما تشهده المنطقة الآن من صراعاتٍ وأزمات أمنية وسياسية وحروبٍ أهلية وتغييراتٍ في كيانات بعض الدول وحدودها، وليس فقط أنظمتها الحاكمة!.
لذلك، كان انتصار المقاومة اللبنانية في العام 2000 بإجبارها إسرائيل على الانسحاب من لبنان مساوياً، في قيمته وأهمّيته، لما قام به جمال عبد الناصر بعد هزيمة عام 1967 من حيث إعادة الاعتبار للأمَّة ولحقّ المقاومة المشروعة ضدَّ الاحتلال، وفي تصحيح مسار الواقع العربي لجهة كيفية التعامل مع إسرائيل حيث تأكَّد أنَّ "الأرض هي مقابل المقاومة" وليس "السلام مقابل الأمان"..
لكنْ مهما كانت الظروف المحيطة بالصراع الآن سيّئة وبالغة التعقيد، ومهما كانت سلبيات الواقع العربي الراهن وحال الانقسام والعجز والضعف، فإنّ الإرادة الشعبية، التي استطاعت في أكثر من بلدٍ عربيٍّ أن تكسر الأغلال وأن تثور ضدّ الظلم والاحتلال، لقادرة على أن تصحّح هذا الواقع عاجلاً أم آجلاً. فالقيادات قد تتعب أو تنحرف.. لكن الشعوب تُمهل ولا تُهمل.