د. صبحي غندور يكتب:
مشروعان يهدّدان المنطقة العربية
المنطقة العربية مهدّدةٌ الآن بمشروعين يُكمّلان بعضهما البعض: مشروع التدويل الأميركي والغربي عموماً لأزمات عربية داخلية، ثمّ مشروع التقسيم الصهيوني لأوطان وشعوب المنطقة. وما قامت به جماعات التطرّف الديني العنفي في بعض البلدان العربية في السنوات الماضية ساهم بخدمة المشروعين معاً في ظلّ غياب المشاريع الوطنية العربية التوحيدية.
ولعلّ أخطر التوصيفات للحروب والصراعات يحدث حينما يحصل استغلال أسماء دينية ومذهبية لوصف حروب ونزاعات وخلافات هي بواقعها وأهدافها سياسية محض، وهذا ما يجري عادةً في الحروب الأهلية التي تُسخّر فيها كل الأسلحة بما فيها سلاح الطائفية السياسية. فالفاعل الآن في الأزمات العربية هو مجموعة من الجهات الإقليمية والدولية التي قد تتباين مصالحها، لكنّها تتّفق على هدف جعل الأزمات العربية الداخلية تأخذ أبعاداً طائفية ومذهبية وإثنية بحكم الأرتباط الخارجي بهذه الجهة أو تلك. فصحيحٌ أنّ هناك خلافاتٍ عديدة بين إيران من جهة وتركيا من جهة اخرى وبين بعض الدول العربية، لكن ما المصلحة العربية والإسلامية من توصيف هذه الخلافات بأسماء مذهبية أو قومية؟! ولماذا يسعى الكثير من العرب والمسلمين لنزع الصفة العربية والإسلامية عن جماعات التطرّف والإرهاب، بينما لا يجدون مشكلة في تعميم التسمية الطائفية أو المذهبية على أي خلاف مع فريق سياسي محلّي أو بلد عربي أو إسلامي مجاور؟!.
إنّ المخاطر القائمة حالياً هي ليست على أتباع هذا الدين أو ذاك المذهب فقط، بل هي أخطار محدقة بحقّ الأوطان العربية كلّها، بما فيها الشعوب والحكومات والمكوّنات الاجتماعية فيها. فضحايا الأزمات الإقتصادية والصحية والإجتماعية والعنف المسلّح الجاري الآن في عدة دول عربية، من أيِّ جهةٍ كان مصدر هذا العنف، هم ينتمون لأوطان ومناطق وأديان ومذاهب مختلفة.
إنّ تنظيم “داعش” مثلاً، انتعش واستفاد من هذه التوصيفات المذهبية لصراعات سياسية محلّية أو إقليمية، حتّى من قِبَل بعض من يتحدّثون ضدّه شكلاً ويدعمون ضمناً – ولو عن غير قصد – مبرّرات وجوده حينما يتّجهون بحديثهم إلى “عدوّهم” الآخر، وهو هنا قد يكون من طائفة أخرى أو مذهب آخر أو من دولة أخرى، ممّا ساهم في إعطاء الأعذار لوجود “داعش” ولممارساتها باسم الإسلام، الذي هو كدين، براءٌ من فكر هذه الجماعات وأساليبها.
إنّ الأحاديث والممارسات الطائفية والمذهبية والإثنية تزيد الشروخ الدينية والوطنية ولا تحقق المطالب السياسية والإجتماعية كما لا تبني سدوداً منيعة أمام جماعات التطرّف، بل على العكس، ترفدها بمزيدٍ من المؤيّدين. فالحراك الشعبي من أجل الإصلاح والتغيير ثمّ المواجهة مع جماعات “التطرّف العنفي” يحتاجان إلى تحقيق أقصى درجات التوافق الوطني والديني.
إنّ أبرز التحدّيات التي تواجه أي وطن أو أمَّة تتمحور حول مسألة الحرّية، سواء أكانت "حرّية الوطن" من الاحتلال أو "حرّية المواطن" من الاستبداد الدّاخلي. لكن رغم صحّة هذا الأمر من الناحية العامّة، فإنَّ أساس المشكلة في الواقع العربي الراهن هو غياب الاتفاق على مفهوم "الوطن" وعلى تعريف "المواطنة". ولعلّ ما حدث ويحدث في عدّة دول عربية من صراعاتٍ على "الوطن" ومن انقساماتٍ حادّة بين "المواطنين"، لأمثلة حيّة على مكمن المشكلة السائدة الآن في المجتمع العربي.
أمّا الاحتلال فهو في أيّ بلد من العالم ليس ناجماً عن قوة المحتل وجبروته فقط، بل عن ضعفٍ أيضاً في جسم البلد الذي يخضع للاحتلال، وهو أمرٌ بات يُعرف بمصطلح "القابلية للاستعمار أو الاحتلال". وبالتالي، فإنَّ كلاً من العنصريْن (قوّة الغازي وضعف المغزوّ) يؤدّي إلى تقوية الآخر. وهكذا كان الحال في الحروب العربية-الإسرائيلية، وما سبقها من حقبة الاستعمار الأوروبي في مطلع القرن العشرين، عقب الحرب العالمية الأولى.
ومواجهة الاحتلال لا تكون حصراً بالمواجهات العسكرية ضدّ الجيش المحتل، بل أيضاً في إسقاط الأهداف السياسية للمحتل، وفي بناء قوّة ذاتية تنهي عناصر الضعف التي أتاحت للاحتلال أن يحدث أصلاً.
لذلك نجد أنَّ حال الضعف العربي المتراكم في العصر الحديث هو بناء تدريجي قام على انعدام التوافق أولاً على مفهوم "الأمّة العربية" – وهي هنا مشكلة تعريف "الوطن" - بعد انتهاء حقبة السيطرة العثمانية، ثمّ تجزئة المستعمر الأوروبي للمنطقة العربية، وقيام أوطان ضعُف فيها الولاء الوطني الواحد وانعدم فيها "مفهوم المواطنة" وساد في معظمها أوضاع انقسامية طائفيّة وقبليّة، فامتزجت التجزئة بين البلدان العربية مع الانقسامات الداخليّة في الأوطان.
حبّذا لو تكون هناك مراجعات عربية وإسلامية لتجارب معاصرة في العقود الأربعة الماضية، كان البعض فيها يراهن على استخدام أطراف ضدّ أطرافٍ أخرى، فإذا بمن جرى دعمه يتحوّل إلى عدوٍّ لدود. ألم تكن تلك محصّلة تجربة “العرب الأفغان”، خلال الحرب على الشيوعية في أفغانستان، حيث كانت نواة “القاعدة” تولَد هناك؟! ثمّ ألم يكن ذلك درس دعم نظام صدام حسين في حربه على إيران حيث انقضّ على دولة الكويت فور انتهاء الحرب، وهددّ السعودية ودولاً خليجية أخرى؟! وهو درسٌ يتعلّمه الآن أيضاً مَن راهن في سوريا والعراق على جماعات “النصرة” و”داعش”، فإذا بالبلدين، نتيجة هذه المراهنة الخاطئة، يدفعان الثمن غالياً.
إسرائيل هي التي تحصد الآن نتائج الصراعات العربية والإسلامية، والتي انحدرت أكثر نحو مستنقع الطائفية والمذهبية. فالعرب والمسلمون الآن إلى مصيرٍ مجهول حيث قد تشهد المنطقة من جديد ما شهدته منذ مائة عام من رسم خرائط جديدة، ومن مراهنات على الخارج، ومن حصد صهيوني لهذه المتغيّرات، بينما العرب منشغولون بأنفسهم وبخلافاتهم.
الفتن الداخلية العربية الجارية في أكثر من زمان ومكان، هي حلقة متصلة بسلسلة الصراع العربي/الصهيوني على مدار مائة عام. فلم يكن ممكناً قبل قرنٍ من الزمن تنفيذ "وعد بلفور" بإنشاء دولة إسرائيل دون تقطيع للجسم العربي وللأرض العربية، حيث تزامن الوعد البريطاني/الصهيوني مع الاتفاق البريطاني/الفرنسي المعروف باسم "سايكس- بيكو" والذي أوجد كياناتٍ عربية متصارعة على الحدود، وضامنة للمصالح الغربية، ومسهّلة للنكبة الكبرى في فلسطين. فلا فصل إطلاقاً بين معارك التحرّر الوطني من المستعمر الغربي وبين الصراع العربي/الصهيوني. ولا فصل أيضاً بين أيِّ سعي لاتحاد أو تكامل عربي، وبين الصراع العربي/الصهيوني.
إنّ تراجع “الهُويّة العربية المشتركة” أدّى إلى تفكّك مفهوم “الهُويّة الوطنية” وإلى طغيان التسميات الطائفية والمذهبية والإثنية على المجتمعات العربية، ومن ثمّ حدثت حالات الانفجار الداخلي في أكثر من بلدٍ عربي، وبذا تصبح “العروبة” لا مجرّد أساس لبناء مستقبل عربي أفضل، بل أيضاً سياجاً ثقافياً واجتماعياً ضدّ التدخّل الأجنبي، ولحماية الوحدات الوطنية في كلّ بلد عربي، إذ عندما تضعف الهُويّة العربية، فإنّ بدائلها ليست هُويّات وطنية موحّدة للشعوب، بل انقسامات حادّة تولِّد حروباً أهلية وتؤدّي إلى تدويل وصهينة المنطقة كلّها.
وإذا لم يستطع العرب وقف خطايا حروبهم وصراعاتهم الداخلية، فليحسنوا على الأقل توصيف هذه الصراعات حتّى لا يخدموا عدوّهم الحقيقي وأفرعته الدولية والمحلّية!.