سعد القرش يكتب:

30 يونيو 2013.. استعادة المشهد السابق لتجربة الملالي

ماذا لو لم تحدث تجربة 30 يونيو 2013؟ ما مصير مصر لو تمكن الإخوان وحلفاؤهم من احتواء الغضب الشعبي؟ ما ملامح استقلال الدولة المصرية عن تبعية متداخلة الدوائر؟ أسئلة يجب أن تعالج بموضوعية؛ لرؤية ملامح المشهد بمقدماته ومآلاته، في سياقه آنذاك، وسط غليان تنصهر فيه الأفكار والرصاص بإرهاب يلوّح بحصد الأعمار. يجب أن تكون الإجابات أمينة في رسم التفاصيل، بعيدا عن حكمة يدّعيها، بأثر رجعي، عجائز مأتم الحرية، وهم يبكون سراب المسار الديمقراطي الكفيل بتصحيح أخطاء أول تجربة تعددية لن تستعاد قبل خمسين عاما على الأقل.

أسئلة أذكّر بها نفسي، وأنعش بها ذاكرة محبطين ويائسين لا يكفّون عن النواح، متجاوزين 30 يونيو 2013 إلى ما انتهت إليه الأمور من استبداد يجلدون بسببه المشاركين في إنهاء حكم جماعة الإخوان، فيوجهون إليهم أصابع الإدانة بالتآمر على الديمقراطية.

بهذا المنطق يمكن اعتبار الرسالة المحمدية نفسها مؤامرة قرشية للسيطرة على الجزيرة العربية، تمهيدا للاستيلاء على العراق والشام ومصر. هذا المنطق يدين مشاركين في 30 يونيو أصبحوا ضحايا، وفقدوا حرياتهم، ويُهدّدون بالسجن ونوبات الاعتقال. ولا يمكن تشبيه هذه النتيجة الكارثية إلا بدهاء معاوية، واستغلاله قتل عثمان في القبض على السلطة، ليصير ابن آكلة الأكباد أميرا للمؤمنين، ويستبيح ابنه دماء أحفاد صاحب الرسالة، “يوم بيوم بدر”، ومن السخرية أن يتهم أحفاد الرسول بالكفر. فهل يمكن لباحث أن يتفذلك، ويجادل في اختطاف معاوية للسلطة واستنهاضه لدولة قريش العميقة، فيزعم أن النبوة مؤامرة أموية دبّرها أبوسفيان، ونفذها معاوية؛ لتمكين قريش؟

في يونيو 2011، جمعني بصديق إيراني أسبوع في الجزائر، رفقة بدأت بالعاصمة، وتلاها سفر إلى تلمسان بالسيارة، ثم عودة بالطائرة إلى العاصمة. سألته في نشوة الفرح بخلع حسني مبارك: هل يمكن تكرار ثورة 25 يناير المصرية في إيران؟ فقال إن هذا يكاد يكون مستحيلا، ربما يحدث بعد زمن تنضج فيه تفاعلات تسهم في هذا النجاح، أما الآن فستكون حرب أهلية بين جيشين، أحدهما الجيش الوطني والآخر قوات الحرس الثوري.

لو فشلت تجربة 30 يونيو فلم يكن مستبعدا لمصر مثل هذا المصير معكوسا. يوجد لدى الإخوان هوى قديم بتجربة الملالي في إيران، وأحتفظ منذ صباي بأعداد من مجلة “الدعوة”، لسان الإخوان في عهد عمر التلمساني. نشر عدد شوال 1399 هجري مقابلة لجابر رزق مع آية الله صادق خلخالي رئيس المحاكم الثورية الإيرانية، حول أحكام بالإعدام أصدرها بحق الكثيرين، قائلا إنهم “كانوا مجرمين ومفسدين في الأرض ومحاربين لله ولرسوله… كافرين بحكم الله معاندين للإسلام عملاء للإمبريالية العالمية والصهيونية”.

وفي مصر ظهرت بوادر الحرب الأهلية، بعد أسبوع من المؤتمر الجماهيري للرئيس الإخواني محمد مرسي، في 15 يونيو 2013، وحمل عنوان “الأمة الإسلامية لنصرة سوريا”، وعقد في استاد القاهرة الذي دخله السلفيون للمرة الأولى، وتناوب قادتهم على سباب الشيعة وتكفيرهم. وسرى مفعول التحريض خلال أسبوع، إذ تم قتل أربعة من الشيعة، وسُحلوا على أيدي حلفاء للإخوان، وهتف القتلة “الله أكبر”؛ فرحين بالنصر. وقبل المؤتمر روى محمد حسين يعقوب، بشيء من التباهي والاستعلاء، أن مرسي قال له “الشيعة أخطر على الإسلام من اليهود”.

إعجاب الإخوان بتجربة الملالي تنظيمي وليس طائفيا. في أغسطس 2012 حضر مرسي قمة دول عدم الانحياز في طهران، وفي فبراير 2013 شارك الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد في قمة منظمة التعاون الإسلامي بالقاهرة، وتخلى عن الوقار الرئاسي في زيارته لشيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب رافعا علامة النصر، قبل أن يتوجه إلى مسجديْ الإمام الحسين والسيدة زينب، ليكرر رفع يده بعلامة النصر.

خلال الأشهر الستة تبودلت الوفود لاستنساخ التجربة الإيرانية، ونصحهم قاسم سليماني قائد “فيلق القدس” التابع للحرس الثوري بتشكيل حرس ثوري، كقوة موازية للجيش والشرطة، ولن يستغرق الأمر إلا بضعة أشهر لتدريب الطلبة على أيدي عناصر الحرس الثوري. وفي وقت لاحق كشف حسين أمير عبداللهيان مساعد رئيس البرلمان الإيراني للشؤون الدولية تفاصيل لقاء سليماني وشخصيات إخوانية اهتمت بنصائح رجل إيران القوي، ولم يسعفهم الوقت لتنفيذها؛ لاقتراب قيامة 30 يونيو.

في اليوم السابق لمؤتمر “الأمة الإسلامية لنصرة سوريا” قرر الرئيس الأميركي باراك أوباما زيادة الدعم العسكري لمقاتلي المعارضة السورية، وطالب بفرض منطقة حظر جوي في سوريا، وتزويد معارضي بشار الأسد بأسلحة ثقيلة مضادة للطائرات والدروع. وكانت المفارقة، في اليوم التالي، هي دخول رئيس مصر إلى المؤتمر الجماهيري حاملا علم بلد آخر. ولم يكن مستغربا، ولا مفاجئا لأحد بعد قرار أوباما، إعلان مرسي قطع العلاقات مع دمشق، من دون سابق تنسيق وتشاور مع الخارجية أو أي جهة مصرية. ومن بين مستقبلي الرئيس مفتي الإخوان عبدالرحمن البرّ الذي قال “إن الجهاد في سوريا فرض، والحرب الآن بين مؤمنين وكفار”. وصفوت حجازي الذي أعلن في التلفزيون أنه يرسل السلاح إلى “المجاهدين السوريين”. وعاصم عبدالماجد الذي رفض الاعتذار عن الاشتراك في قتل 118 في عيد الأضحى عام 1981. وطارق الزمر أحد المتهمين بالاشتراك في قتل أنور السادات، وهو صاحب تهديد “سنسحقهم يوم 30 يونيو”. وسط هؤلاء أعلن مرسي الجهاد في سوريا.

منذ الإعلان الدستوري في نوفمبر 2012 انقسم الشارع، وسقط قتلى، واستمرت لجنة طائفية في كتابة الدستور الإخواني، رغم اعتراض إسلاميين منهم المستشار طارق البشري وعبدالمنعم أبوالفتوح، وانسحاب القوى المدنية والأزهر والكنيسة القبطية، فاختارت اللجنة محمد الصاوي ممثلا للكنائس المصرية الثلاث (الأرثوذكسية والإنجيلية والكاثوليكية). في عام واحد نجح الإخوان في ما فشل الغزاة، منذ غزو الإسكندر عام 332 قبل الميلاد. ولم يتح لأي احتلال من العبقرية ما يمكّنه من استعداء النقابات والجيش والشرطة والقضاء والأزهر والكنيسة والإعلام والاتحادات الطلابية والنخب الثقافية والسياسية.

بهذه المقدمات يُدين عبدالفتاح السيسي للإخوان، ولسيد قطب شخصيا، بالتفاف المصريين حوله، ما زلنا في مشهد 30 يونيو 2013 ولم ننتقل إلى ما يليه، ويكون الإخوان مشاركين في تمهيد الطريق إلى 30 يونيو، برفض الدعوة إلى استفتاء على الرئيس مرسي، أو إلى انتخابات رئاسية مبكرة. كان الشعب عبقريا حين اختارهم، ثم وصفوه بعبادة البيادة، وعاقبوه بالعنف المجاني في الشارع، وباستحلال الدماء، وبحرق كنائس ومتاحف بعد 30 يونيو. بهذا الدعم الإخواني صعد السيسي، وعادت مصر إلى ما قبل 25 يناير 2011.

بعيدا عن المشهد الحالي، وهو مقبض قاتم ضاغط يعجّل بانفجار يقرر الشعب موعده، كانت 30 يونيو 2013 حتمية تاريخية، لإنقاذ مصر من التحول إلى قاعدة عثمانية في أفريقيا، بعد أن بدت مصر الإخوانية غير مصرية. ومن أجل استعادة بقية ذلك المشهد، وما تلاه من عنف، راجع مقال “فضّ اعتصامي الإخوان.. إعادة تركيب المشهد ضرورة لترميم الذاكرة” المنشور بصحيفة “العرب”، في 27 أغسطس 2019، وتذكّر قول الإمام النفري “إنما أحدّثك لترى، فإن رأيت فلا حديث”. أمّا وقد رأيت، فلتكن نهاية المقال.