سعد القرش يكتب:

سباب مصر أحدث مهنة لإثراء العاطلين

من أبرز إنجازات الحداثة تعظيم مكانة الفرد، واكتسابه قداسة نسفت “الإجماع” الحاكم لكائنات الممالك غير البشرية. هذا الإجماع السلوكي يعصمها من نزوات جيل أو فرد يجرّب التمرد على المواريث، فيعترض على نهج السلف. ويمتاز الإنسان بارتقائه الإدراكي، وقدرته على تحصيل المعارف، وتعديل استجاباته وفقا لتراكم خبراته، وتنامي وعيه، فيغضب ويثور، ويقرر ألا يكون فردا في قطيع، ويختار طريقه استنادا إلى أن “الإجماع” مبدأ غير إنساني يهين لآدمية البشر، ويدل على الخضوع لعبودية ما. ولا تعجب لإجماع عاملين في فروع لمؤسسة إعلامية أو بحثية على الشماتة بمصر. هذا ارتباط شرطي، وعليك أن تحترم ضعفا إنسانيا ينتهي بنوع مذلّ من أكل العيش.

لكل مؤسسة “يونيفورم”، وليس من حق العاملين في فروع “التوحيد والنور” أو محلات الأطعمة الدولية والمحلية أن ينزعوا شارة الشركة، ويخلعوا القمصان، إلا بانتهاء العمل والمغادرة. وتختلف أوشحة القضاة عن وكلاء النيابة، وكل زيّ دالّ على مهنة تفرض على أصحابها الالتزام بما ارتضوه منذ بداية الالتحاق بها. وتحرِم المؤسسات العسكرية والكهنوتية أعضاءها من فضيلة الاجتهاد، أو إبداء رأي لم تقرّه مؤسسة تفرض هيمنتها على أعضائها، فإذا رأى أحدهم أنه قادر على تحمّل ثمن الاختلاف فعليه الاستقالة. ويصير العسكري السابق مواطنا مدنيا آمنا في النظم الحرّة، ومعتقلا أو مطاردا في النظم الاستبدادية. كما يصبح رجل الدين مارتن لوثر أو محمد عبده.

العقل الإجماعي يتخلى عن الحق الإنساني في الاختيار، “هي أشياء لا تشترى”، ويرتضي مذلة إحناء الرأس، يتفادى نظرات أقرانه ممن يلتمس منهم المؤازرة، فإذا التقت في مسيرة القطيع عين منكسرة، مصادفة، بعين أخرى منكسرة أيضا تبادلتا العزاء الصامت. ويستطيع القارئ أن يتنبأ بعناوين ومضامين مقالات وافتتاحيات من هذا الصنف “الإجماعي”، وتعاد قراءتها في برامج فضائية مخصصة للصحافة، ولعل قارئ الافتتاحية هو نفسه كاتبها بالأمر، قبل إرسالها إلى قارة أخرى للنشر، ثم يتلقاها ويستدل بها على وجهة نظر مالك يفرض هذا الإجماع، ويوجب تناغما لا مجال فيه للخطأ الفردي؛ فالسهو يعني الإبعاد الفوري عن الأضواء، وقد يكلف صاحبه سحب الشارة، والتفنيش.

أن تكون مهنة قطيع من الكتبة والصحافيين والمعلقين والعاطلين عن الموهبة هي سباب مصر فهذه مأساة، مأساتهم؛ فما أسهل أن تنتهي “خدمتهم” المقتصرة على إطلاق سهام أعدّها غيرهم، إذا انتهت الخصومة الحالية بين عبدالفتاح السيسي وممولي الاستثمار في الكراهية. وأترفع عن ذكر هذا الرأس أو ذاك، ممن لا تحتمل كياناتهم نزع ألقابهم، كما ينزع لقب أي حاكم، من دون أن ينتقص هذا منه أو ينال من شعبه وبلده. ولكن مصر كبيرة، ومسيرتها تبدأ من طفولة البشرية إلى آخر الزمان، ولم تسقط بالموت المفاجئ لعبدالناصر، ولن يرتهن مستقبلها بالسيسي أو بغيره، فالحاكم عابر.

هذا القارئ المسكين افترسته الدعاية الإخوانية الممولة، وخصوصا تلك التي تنطلق من تركيا، وصورت له أردوغان رمزا للإسلام.

فما الذي يحشر اسم السيسي ومصر، بمناسبة ودون، في ما تنشره وتذيعه منابر تتناسل، ولا تنأى عن مصر إلا لكي تستهدفها؟ تصير النكتة سمجة إذا ذكرت مرة ثانية، ولكن السماجة تعيي من يداوي المرضى بها، فتتسع ابتساماتهم البلاستيكية فرحا بآثار كارثة متوقعة إذا استمرت أزمة سد النهضة الإثيوبي، ويسجد القطيع لله سجودا رمزيا لقتل جنود على أيدي إرهابيين، أو لادعاء اقتراب قطع من الأسطول السادس الأميركي من شواطئ الإسكندرية كما روّجت منصة اعتصام رابعة بعد 30 يونيو 2013، فانطلقت صيحات التكبير؛ استبشارا بفتح ونصر قريب على أيدي القوات الأميركية الصليبية. ومن المفارقات ألا يكون لبلدان التمويل ذكرٌ كأنها غير موجودة.

تمويلات الكراهية تضّخها، بسخاء، كيانات وظيفية تحجب نفسها في منصاتها الإعلامية، ومن الإهانة بقاؤها ممسوحة الملامح، وإذا جاءت مناسبة لا تخص مصر، فما أسرع الدفع بغوغاء يتم توجيه وعيهم في مجرى محدد، كما حدث الجمعة 10 يوليو 2020، بعد توقيع رجب طيب أردوغان مرسوما يعيد متحف آيا صوفيا إلى مسجد، تأسيسا على إبطال محكمة عليا لقرار كمال أتاتورك، عام 1934، تحويل المسجد إلى متحف. قال أردوغان “بهذا الحكم القضائي، وبالإجراءات التي اتخذناها بما يتفق مع القرار، عاد آيا صوفيا مسجدا مرة أخرى، بعد 86 عاما، على النحو الذي أراده له فاتح إسطنبول”. شأن تركي كما ترى، فلماذا تُستدعى مصر والسيسي؟

استدعاء إعلامي تحكمه ثنائية الإسلام والكفر، ضمانا لاستنفار مصريين يعانون الاستبداد والغلاء، وتحويل غضبهم إلى نصرة المتفق عليه، وهو الدين، امتدادا لما ادعته فضائيات إخوانية بعد إنهاء حكم الإخوان في 30 يونيو 2013. وأمامي الآن صحيفة “الحرية والعدالة”، الناطقة باسم الإخوان، الأحد 25 أغسطس 2013، وكانت مؤسسة الأهرام لا تزال تطبعها، ويقول عنوانها “لجنة الانقلابيين لتعديل الدستور تجيز سبّ الدين والرسل وتشجع انتشار الفساد وتدعم تدهور الأخلاق!”. علامة التعجب ضمن عنوان يؤكد تدهور المستوى المهني، وتوجههم إلى وجود قارئ مستلب، مضمون لا يناقش، وسوف يصدق هذا الهراء الشعبوي، فيخرج من بيته شاهرا ما تيسر له من أسلحة؛ دفاعا عن دينه.

هذا القارئ المسكين افترسته الدعاية الإخوانية الممولة، وخصوصا تلك التي تنطلق من تركيا، وصورت له أردوغان رمزا للإسلام. ومن حق الدافع للزمار أن يأمر بعزف نغمة تروقه، وأن يستأجر له رعاياه من يحشر اسم مصر والسيسي في شأن تركي، مثل قضية متحف آيا صوفيا، فيكتب مسلم غيور، ولعله اسم وهمي “نسأل الله أن يحفظ تركيا وليبيا وسائر بلاد المسلمين، وأن ينصر الزعيم أردوغان البطل، وأن يعجّل بهلاك المجرم بشار واللص حفتر والزنديق السيسي”. ويحتجون بما يدّعون أنه حديث نبوي يقول “لتفتحن القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش”. ولدى شعوب أخرى “أحاديث” مماثلة، ابتدعتها الذاكرة الشعبية؛ للثناء على الجيوش.

في كل عصر عازفون لنغمات مدفوعة الثمن، بدوام كامل وبالقطعة، وقد يقلّ ثمن المنشور الفيسبوكي عن المقال ويزيد على التغريدة. ويخضع التقييم لجنسية الشتام وانتمائه، فاليميني أدنى، والأعلى سعرا هو الماركسي غير المسلم. لهذه النماذج أسلاف، ولكننا للمرة الأولى نرى مصريين مرضى بالروح العدوانية، حتى قبل 30 يونيو 2013، وأفقدهم الجنون الإرهابي تعاطف الناس، فتمادوا في إهانة الشعب، والشماتة بمصر. ثم أعماهم الاستئساد الأحمق، فدفعهم إلى ما لم يفعله فرنسي مع بلاده، بعد تعاون الجنرال فيليب بيتان مع الاحتلال النازي. لم يتخذ مواطن فرنسي من جمهورية فيشي ذريعة لسباب فرنسا، والهتاف لهتلر. وفي مصر من يقول “إلى الأمام يا أردوغان”.