علي الصراف يكتب:
الإمارات وإسرائيل.. العنتريات أم ثمن التذكرة؟
المتفلسفون كثر. والعنتريون أكثر. ولكن الحقائق تظل حقائق. ومنها أن مصر أقامت علاقات مع إسرائيل، وحصلت على ما تريده من تذكرة السلام. وكذلك فعل الأردن. ثمن التذكرة كان عودة أراضيه، وأمنه. وعندما تحقق الإمارات إنجازا دبلوماسيا ضخما بوقف ضم الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية وغور الأردن، مقابل إقامة علاقات دبلوماسية، فإن الأمر يستحق عناءه.
وفي الواقع، فقد كانت الإمارات قالت بوضوح إن قيام إسرائيل بضم الأراضي الفلسطينية سوف ينطوي على ثمن باهظ. وكان في ذلك نوع من التهديد بأن العلاقات التي تطمح إسرائيل إلى إقامتها مع الدول العربية سوف تنهار وتتبدد مع كل خطوة تخطوها إسرائيل في ذلك الاتجاه.
ما حصل هو أن إسرائيل أقرت بالتراجع عن خطط الضم.
لمن يعرف طبيعة المشروع الاستيطاني الإسرائيلي وأهدافه التوسعية، فإن المدلول أبعد بكثير من مجرد قصة نجاح دبلوماسي.
هذا المشروع بلغ نهايته الآن. يمكن لمن يرغب بلغة العنتريات أن يقول “إنه اصطدم بحائط الإرادة الصلب”. ولكن المسألة ليست مسألة الطريقة التي تعبر فيها عن الواقع. المسألة هي الواقع نفسه. وفي حدود الواقع، فإن الإعلان عن وقف مخطط الضم، يوازي بوضوح انسحاب إسرائيل من جزء آخر من الأراضي العربية المحتلة وإقرارها ببطلان سياسات التوسع.
ولو أن سلاما ممكنا مع سوريا أدى إلى استعادتها للجولان، وهذا أمر مطروح أصلا، فإن أحدا لن يعود بحاجة إلى عنتريات، طالما أن الواقع المطلوب عاد لكي يتجسد بوسائل ناعمة لم تقدر عليها الوسائل الخشنة.
ولو جاز لكل دبلوماسية عربية أن تأخذ من إسرائيل شيئا، مقابل العلاقات، أو توقف تطلعاتها الاستيطانية عند حد، فإسرائيل في النهاية سوف تجد الطريق إلى السلام سهلا وحتميا، كما أن الفلسطينيين سوف يكونون هم الرابح الأكبر.
هذه هي المرة الأولى التي ينجحون فيها بالمحافظة على ما لديهم من الأرض، بينما كانوا يقفون على حافة خطر جسيم، كاد يهدد كل شيء.
الوجه الآخر للمسألة، هي أن الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي يمكن أن يظل مفتوحا، لتتقرر نتائجه في ميدانه الخاص. أي علاقات دبلوماسية لن يكون من شأنها أن تقرر لأحد ما لا يرغب به.
الفلسطينيون أدرى بشعابهم. وهم في النهاية الطرف الذي يقرر معادلات السلام النهائية. ودعمهم في كفاحهم من أجل تحرير أرضهم يظل واجبا. ومثلما لم تتخل مصر ولا الأردن عن هذا الواجب، فلن تتخلى عنه الإمارات.
المسألة هنا ليست مسألة ثقة بحسن النية. ولكنها مسألة ثقة بتاريخ من الدعم المتواصل، كما أنها مسألة ثقة بالنفس أيضا. ومن ذلك، فإن أحدا لن يضع “نعم” في معادلات السلام عندما يضع الفلسطينيون “لا”. وهم أدرى بشعابهم لأنهم هم أصحاب القضية، والباقي داعمون. هكذا كان الحال دائما، وهكذا سيكون.
النضال الفلسطيني من أجل الحرية هو جوهر الصراع، وهو ما سوف يقرر المصائر النهائية، وليس أي شيء آخر.
مفهوم تماما، أن العلاقات مع إسرائيل، من وجهة نظر السلطة الفلسطينية، يجب أن تكون ورقة على طاولة الحل النهائي. إنها تعادل قالبا يقول“حل شامل في مقابل تطبيع شامل”. ولكن هذا واحد من الافتراضات التي تحسن العودة إلى النظر فيها من حين إلى حين. وعندما تبرز مخاطر وتنشأ فرص لدرئها، فإن من الحكمة التعامل معها بمنطق أقل جمودا مما ألفته القوالب.
“حل شامل” أو “حل على أقساط”، الواقعي في النهاية هو الثمن. ماذا تحصل، في مقابل ماذا. ومثلما أن الجزئي لا يشكل بديلا عن الكلي، فإنه ليس هو الحل. الحل فلسطيني – إسرائيلي. ولا أحد يقول غير ذلك أصلا.
بعبارة أخرى، الفلسطينيون، كفاحهم، هو الحل. وعندما يقصّر أي أحد في تقديم الدعم، قل من هو، وبماذا. والإمارات آخر من يمكنه أن يُقصّر. سجلات القول والفعل معروفة. الأمر الذي يجعل المزايدة فيها أو عليها نافلا عن الحاجة. ولا شيء يبرر لغة التخوين. ذلك لأنها جريمة ضد النفس أولا، وهي تهين أبسط قواعد السياسة. أفضل منها، أن تطلب دعما وأن تأخذ حصتك من ثمن التذكرة.
إسرائيل تريد أن تجد نفسها قادرة على العيش في محيط يقبلها. هذه ورقة إغراء حقيقية. ولقد أحسنت الإمارات استخدامها.
ولو جاز لكل دولة عربية أن تأخذ شيئا وتعطيه للفلسطينيين مقابل العلاقات مع إسرائيل، فلن يخرج أحد خاسرا.
الإمارات تمارس دبلوماسيتها بصدق وإخلاص مع النفس أيضا. وهي تكاد تقول: إذا كنت تجد أن العلاقات مع الدول العربية ثمينة إلى ذلك الحد، فعليك أن تدفع في مقابلها شيئا.
وما ذلك، في الواقع، إلا تطبيق حرفي لمبادرة السلام العربية التي طرحها العاهل السعودي الراحل الملك عبدالله بن عبدالعزيز في مؤتمر قمة بيروت الشهير عام 2002. وصادقت عليها منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة الراحل ياسر عرفات. وهي تقول: اعطونا الأرض ولكم السلام، بكل ما قد يعنيه.
الإمارات أخذت وقفا لمشروع الضم، كما أخذت وقفا ضمنيا للأيديولوجيا التوسعية الإسرائيلية نفسها.
مع ذلك، فإن إسرائيل ما تزال طرف صراع مفتوح أيضا. فطالما أن السلام الشامل والعادل لم يتحقق، فإن جسور الخشونة سوف تظل قائمة أيضا.
لا توجد مشكلة في ذلك. كلٌ بجسره وما يشاء. ولكن، طالما أن الجسور الناعمة يمكنها أن تحقق العبور نفسه إلى ضفة السلام والعيش المشترك، فالمنطق يقول إن المسألة لا تتعلق بالجسر نفسه، بل بنوايا العابرين عليه، وما إذا كانوا يعبرون وقد أمسكوا بالثمن.
لقد تعرفنا، على امتداد سنوات الصراع مع إسرائيل على شعارات وعنتريات كثيرة. ولم تفض إلا إلى المزيد من الخسائر.
إسرائيل صارت تعرف حجم خسارتها أيضا.
الفكرة من وراء أن تكون مقبولا في المنطقة، ليس مجرد إغراء دبلوماسي، ولا حتى أفق اقتصادي، بل مشروع إنقاذ حقيقي من مأزق القوة نفسه. تلك القوة بلغت نهايتها أصلا. وهي لم تأت بالسلام، ولا بالقبول، ولا بالتعايش.
ما هو البديل؟ تسأل إسرائيل نفسها الآن.
أعط الأرض لتكسب السلام. هذا هو “الاكتشاف” الذي يمكن حتى لحكومة “اليمين” الإسرائيلي أن تستطلعه. إسرائيل، بهذا المعنى، تؤهل نفسها لكي تدخل إلى المبادرة العربية للسلام، ولو من الباب الخلفي، أو على أقساط.
تحتاج إلى قوة لكي تقنعها بذلك. إذ ليس مهما الباب. المهم أن تدفع ثمن التذكرة.
ولئن لم يقبض المتفلسفون ولا العنتريون شيئا حتى الآن، فقد تخلعت الأبواب كلها، وهم مازالوا يتعنترون.