علي الصراف يكتب:

الإمارات وإسرائيل بين العقل والغضب

كم كان الثمن الذي دفعناه من جراء التعامل، حيال قضايانا المصيرية، بالغضب؟

احسب، وعد لتنظر، وقلّب كل أوراق السبعين عاما الماضية، وستجد أن الغضب وهوى النفس كانا هما سيدا الموقف. ونحن إذ نشكو من الهزيمة والعجز والفشل، فإننا لم نلحظ الصلة بعد بين هذا وذاك.

السياسة، بأوسع وأضيق صورها، هي نوع من رياضيات، وليست كلاما أو شعارات. ولئن كانت الأخيرة تستهوي القطيع، لأنه قطيع، فإن حسبان الحساب مسؤولية كبرى لمن يتعين أن يتحمل نتائجها.

بالغضب، لا بالاستعداد العسكري المناسب، خضنا حرب عام 1948، فخسرناها. وكانت هزيمة 67 ثمرة للثقة المبالغ فيها بالنفس. ولقد غنينا السياسة بتواز تام مع القصائد، حتى لكانت معاركنا تخاض في بحور الشعر أكثر مما تخاض على أرض الواقع.

ما ظل طاغيا باستمرار هو أن الانفعال سابق على كل ما عداه. وأن الشعار هو المعركة.

القضية الفلسطينية قضية شعورية كبرى، تستجلب العواطف وتُمسك بتلابيب النفس من أقصاها. ولكنها كانت ولا تزال قضية علاقة بين الإمكانيات والواقع أيضا.

لا سبيل لنكران أهمية القصيدة. فهذه ظلت حافزا غنيا، من دون أدنى شك، لبقاء جذوة القضية تتقد في القلب والضمير. أفهل كان من المفيد أن تغلب على الرياضيات وحسابات الواقع؟ بالقطع لا.

شيء من العقل والحكمة كان يملي على أصحاب القرار أن يتدارسوا المعادلات الاقتصادية والإستراتيجية بعين غير عين الخليل بن أحمد الفراهيدي.

إسرائيل تستعطف، ليس كما نستعطف. ولكن ما الذي صنع منها قوة؟

شيئان أكثر من غيرهما أتاحا لإسرائيل أن تظل قادرة على مواصلة التحدي: علاقاتها الخارجية، وقوتها الإستراتيجية بمعناها الشامل.

ومع ذلك فإنها ليست قوة من دون ثغرات جسيمة. كما أنها ليست قوة غير قابلة للكسر. هذا أمر تفهمه إسرائيل نفسها، وهي تحلله من دون انقطاع، وتحاول استدراكه، ولو بالقليل من الطائل.

ما نفعله نحن، في المقابل، هو أننا وضعنا رهان العواطف فوق كل رهان آخر. ونظرنا إلى الحق على أنه، بحد ذاته، قوة، وهو كاف لمجرد أنه حق.

ولقد احتجنا إلى الكثير من الوقت، وبددنا الكثير من الإمكانيات، لكي ندرك أنك لا تستطيع أن تخوض حربا وأنت ضعيف اقتصاديا، كما أنك لن تكسبها لكي تحرر شعبا وأنت تستعبد شعبا آخر. ولن تحصل على الدعم الذي تستحق إذا كنت تتعالى على الآخرين لأنك صاحب حق، أو لأن الضمير يجب أن يغلب، أو لأن المؤازرة حق مسبق تحصل عليه من دون أن تبذل جهدا لتبريره. ولقد ضاع الكثير من الوقت، لكي نكتشف أن في هذا من الشعر أكثر مما فيه من السياسة.

إسرائيل تدرك أنها تقف حيال خطر وجودي. أحد أبرز وجوهه هو أنها تعيش على صفيح ساخن في منطقة لا تقبلها. وهي مستعدة، حسابيا لا شعوريا، من أجل كسب القبول أن تتخلى عن الأرض مقابل السلام.

هذا ما حصل مع مصر، والأردن، وهو ذاته ما حصل مع الفلسطينيين أنفسهم، وما يمكن أن يحصل مع سوريا ولبنان.

من دون انتساب إلى محيطها الإقليمي، تظل إسرائيل عالة على نفسها وعلى الآخرين. وككل مجتمع مأزوم مع نفسه، يتصارع من أجل العثور على معنى لوجوده، فإن استمرار الصراع مع المحيط الإقليمي ومع الفلسطينيين في الداخل، سوف يظل يُملي على إسرائيل أن تكون بضاعة لطائرة حربية ودبابة. كما يُملي عليها اتباع سياسات عدائية تجاه الجميع، تزيد من حدة أزمتها الداخلية الخاصة. وما هذا إلا وضع شاذ، لدولة لم تجد نفسها إلا في حالة نشاز دائم. وبسبب من أعمالها وجرائمها، بل وبسبب من قوتها الظاهرية المفرطة، فإنها تستطيع أن ترى الكراهية كيف تتقد في العيون وكيف تُتوارث من جيل إلى جيل.

الإمارات أدركت الأهمية الإستراتيجية للقبول. أدخلت الأمر في معادلة التوازنات، فلوحت لإسرائيل ببعض القبول مقابل التخلي عن الأطماع الجديدة بأراضي الضفة الغربية وغور الأردن. وحصلت على ما تريد. لم تكن هناك عواطف. ومضى كل شيء باردا.

أنقذت، بهذا السبيل، ليس الأرض وحدها، ولكنها أنقذت السلطة الفلسطينية نفسها من الانهيار، بينما كانت تستعد لتسليم المفاتيح. كما أنقذت حل الدولتين، ورسمت حدودا لإسرائيل التي لا تحدها حدود. ولا يزال يتعين للخرائط النهائية أن تتحدد، وفقا لمبادرة السلام العربية التي طُرحت وصُودق عليها في مؤتمر القمة العربية في بيروت عام 2002.

هذا النوع من المبادرات لا يدخل عوالم القصيدة. ولا يبدو مؤثرا من ناحية العواطف، ولكنه يفعل فعله على الأرض. وبالنسبة لقضية شعورية كبرى، فإن الواقع دائما ما كان مثيرا للانفعالات. الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات جرب الكثير منه ليس في مواجهة العديد من الدول العربية، فحسب، بل في مواجهة فصائل مسلحة داخل بيته أيضا. وفي الكثير من الأحيان، كان يردد لمعانديه القول “والله ما منعت أحدا أن يذهب لتحرير فلسطين”.

فقل للذين يهاجمون الإمارات: ما الذي يمنعكم، أن تذهبوا إلى ما تريدون؟

الغضب لا يصلح لصنع أي قرار، ويفسده حتى إذا كان صائبا. والتراجع عنه مكلف.

لقد كان من الخير أن نعرف ماذا يُخيف إسرائيل؟ وما الذي يجعلها قادرة على أن تتخلى عن سياسات العدوان؟ وماذا يمكن أن تعطي لتأخذ ماذا؟ وما السبيل لهزيمة التطرف فيها؟ وما هي مصادر قوتنا نحن؟ وكيف يتعين أن نوظفها لكي لا نبدو لقمة سائغة؟ وما هي أدوات الضغط والعلاقات الخارجية التي نملك؟ وكيف نجعلها تنمو لتصبح قوة مضادة؟ وما هي “القوة” أصلا؟ ما عناصرها؟ وماذا نحتاج لكي نجعلها قوة حقيقية وراسخة ومتجددة؟

هذا النمط من الأسئلة لا يستطيع الانفعال ولا الغضب أن يقدما لها أجوبة صالحة للبقاء. ولكن عندما يجيب عليها عقل بارد، يقرأ معادلاته جيدا، فإنه يستطيع أن يؤسس لحال غير الحال الذي نعيش فيه، ويقلب الهزيمة، ومشاعرها المرة، إلى نصر ينمو من بين الأصابع، بدلا من أن نهدره كالماء يجري من بين الأصابع.

والخطوة الكبيرة التي خطتها الإمارات، بحُسن الحساب، إنما تحتاج أن تُستكمل بالحساب نفسه.

تتحدث إسرائيل عن أنها تأمل بإقامة علاقات دبلوماسية مع البحرين وعُمان، ويحسن أن نعرف ما هو الثمن؟ وما الذي يجعلها علاقات جديرة بالدفاع عنها؟ وما الذي يمكن أن تُسديه من خدمات لقضية السلام؟ وكيف يمكن لها أن تكون خطوة في الطريق إلى حل دائم، شامل وعادل؟

هذه الأسئلة هي ما يجب أن تصل الإجابة عليها من المنامة ومسقط. أما أبوظبي، فقد حصدت أجوبتها بحكمة ملفتة، وبتدبير عاقل. حتى باتت أجوبتها منعطفا من مأساة توشك أن تدمر كل شيء.

الكويت قالت إنها ستكون آخر من يخطو هذه الخطوة. إنما بعقل ناضج أيضا، ينتظر التتمة. ويستطيع المرء أن يهجس أن السعودية لن تشرع بها ما لم يكن الأساس قد ترسخ، والطريق بات مفتوحا لذلك الحل الدائم.

إسرائيل تريد السلام. سوف نصدق ذلك، بل وسوف نواصل الاعتقاد بأنها بحاجة ماسة له، وأن لديها من الأزمات ما لا يمكن حله إلا من خلال تسوية عادلة، ترضي الفلسطينيين في النهاية قبل أن ترضي غيرهم. وأن سياساتها القائمة على التهديد لم تعد تجدي نفعا. وإنها لا تستطيع أن تجعل من السلام بضاعة مضادة بحيث نطلبه نحن، لأننا بتنا أقدر على حفظه لأنفسنا بما نملك وما نقدر عليه.

وإسرائيل تريد سلامات منفردة. حسنا. هذه سلامات منفردة. ولكل منها ثمن.

ربما كان الدفع بالجملة أفضل من الدفع بالأقساط. ولكن لا بأس. يمكن التعايش مع الفكرة. نحن أقدر وأبقى من إسرائيل على القبول بها.

كل هذا، يذهب في طريق واحد، هو أن للسلام ثمنا يتعين أن يُدفع. وأن القبول بإسرائيل ليس غراما ولا عشقا سريا، بل توازنات مصالح عامة وخاصة في آن معا. وهذا مما لا يمكن التعامل معه بانفعالات ولا بشعارات ولا بغضب، ولا حتى بأي نوع آخر من المشاعر.