من الطبيعي أن يتشكك، أو يتخوف الفلسطينيون، من مخرجات الاتفاق الثلاثي بين الإمارات والولايات المتحدة وإسرائيل؛ فالتجربة الفلسطينية خصوصا، والعربية عموما مع إسرائيل، كانت متعبة وصعبة، إن على صعيد المفاوضات، أو على صعيد التزام تل أبيب بالاتفاقيات الموقعة معها، وإصرارها دوما على التمسك بشروطها المتشددة، وتفسيرها الضيق لأي اتفاق، حتى بعد التوقيع عليه.
ولعلنا نذكر هنا أن مبادرة الرئيس الأسبق أنور السادات، التي نظر إليها العالم كمتغير هائل في مسار الصراع العربي الإسرائيلي، انتهت بولادة عسيرة لاتفاقية كامب ديفيد الإطارية بين مصر وإسرائيل، ومن ثم ولادة أصعب لاتفاقية السلام بين البلدين، قبل أن تتحول مخرجاتها إلى علاقات أمنية وسياسية، خالية من الروح الحقيقية للسلام.
ولم يكن الحال أفضل في المفاوضات العربية الإسرائيلية في واشنطن، والتي تلت مؤتمر مدريد عام 1990، وكذلك المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية في مراحلها المختلفة، بما في ذلك اتفاقية أوسلو والاتفاقيات التالية لها في شرم الشيخ بمصر، وواي ريفر بالولايات المتحدة، وهو ما تكرر أيضا في المفاوضات السورية الإسرائيلية بواشنطن، والتي انتهت إلى طريق مسدود؛ بسبب اشتراطات إسرائيل الأمنية وإصرارها الشديد على الاحتفاظ – تحت ذريعة الأمن- بأجزاء من المرتفعات السورية المحتلة.
وحتى اتفاق السلام بين الأردن وإسرائيل ظل اتفاقا باردا، تهدده الشكوك، وتتقاذفه المواقف السياسية، التي حالت دون تطوره إلى مصالح مشتركة.
والذين يجدون أن المهمة الأصعب بعد الاتفاق الثلاثي الجديد، هي تسويق هذا الاتفاق عربيا، هم الذين فاجأهم الاتفاق، أو هم ممن يتبرع -بقصد أو دون قصد- للاعتراف بأن العالم العربي هو من يتحمل، تاريخيا، وزر الفشل في التوصل إلى سلام شامل ودائم مع إسرائيل، أو أن الدول العربية لم تكن في كل مراحل الصراع مستعدة للسلام، أو غير مستعدة لدفع مستحقاته السياسية والنفسية، وهذا ببساطة غير صحيح أو غير دقيق.
فالعالم العربي بكل مدارسه السياسية والأيديولوجية، جرب منذ اتفاق الهدنة عام 1948، كل أشكال الاتصال السري، والكثير من الاتصالات غير المباشرة والمباشرة، وأظهر بشكل واضح، الاستعداد للسلام والقبول بإسرائيل كحقيقة سياسية في المنطقة، عندما وافق على قرار مجلس الأمن رقم 242، والقاضي بانسحاب إسرائيل من الأراضي العربية المحتلة عام 1967. لكن إسرائيل هي من كانت ترفض ذلك القرار وتتمسك بتفسيرها الخاص له، حتى انتهى به المآل إلى موت سريري.
وحتى على الصعيد الثنائي، فإن التجربة لم تكن أحسن حالا. فالاتصالات التي جرت بشكل غير رسمي بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، بعد خروج المقاومة الفلسطينية من الأردن عام 1970، والتي أخذت طابعا رسميا بعد ذلك في أوسلو، لم تنجح في لجم المطامع الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية، وفي توفير إطار سياسي يسمح للفلسطينيين باستعادة جزء من حقوقهم السياسية القاضية بإقامة دولتهم المستقلة وفق حل الدولتين، الذي بات فيما بعد مطلبا دوليا، وحقا مكتسبا للفلسطينيين.
وبخلاف الجانب الفلسطيني، فإن محاولات صنع السلام مع الدول العربية كانت تتعثر بقرارات أحادية من جانب إسرائيل، كضم الجولان السوري المحتل، وضم القدس الشرقية، والتوسع في الاستيطان، وفرض وقائع جديدة على الأرض باستمرار.
هذه المعاناة الطويلة التي أفرزها المسار التاريخي للصراع العربي الإسرائيلي، كانت ولا شك محبطة، وأدت إلى شكل من أشكال اليأس من أي جهد لتحقيق السلام الشامل والعادل، بل واليأس من الواقع العربي برمته.
وبسبب حالة العجز وذلك الإحباط، وجدنا دولا عربية تتفكك، ووجدنا قوى إقليمية تستقوي عليها وتتمدد على حسابها، ووجدنا تدهورا في حياتنا الاقتصادية والاجتماعية بشكل وفر بيئة خصبة للإرهاب، الذي ضرب بعمق مفاصل حياتنا، وأهدر الكثير من مواردنا.
وفي مقابل ذلك، كانت إسرائيل تعمل بدون كلل لتصبح لاعبا أساسيا على المسرح الدولي، وباتت البوابة الأهم لكثير من الدول –حتى الكبرى منها – للحصول على مكان سياسي أو مكانة اقتصادية.
هذا الإحباط وذلك اليأس كان يضع العرب أمام خيارين:
— إما الاستسلام لمقادير يصنعها الآخرون، لا على صعيد القضية الفلسطينية فحسب، بل وفي المنطقة عموما.
— أو القبول بتغيير قواعد اللعبة، بما في ذلك انتهاج سياسة المناورة الضيقة التي تجعل لأي مكاسب ضئيلة قيمة كبيرة.
ويبدو أن الإمارات آثرت الخيار الثاني، وهي تعلن الاتفاق الثلاثي الذي يخرج الصراع مع إسرائيل من مفهومه التقليدي، إلى أفق جديد قائم على التفاعل مع الحقائق السياسية والظروف الدولية، وصولا إلى خلق نوع من التأثير فيها، وفي توجيه مساراتها.
والذي تابع مسيرة الإمارات العربية المتحدة، منذ قيامها وحتى الآن، لا بد وأنه يدرك أن المكانة التي وصلت إليها على المسرح الإقليمي والدولي، رجحت خيارها الثاني. فهي إلى جانب ما تتمتع به من مكانة اقتصادية هائلة، تملك شبكة واسعة من العلاقات الدولية، تجعل لتأثيرها السياسي هامشا كبيرا، وتجعل للنكث بأي اتفاق مع الإمارات كلفة باهظة.