جريمة تلاحق مرتكبها..

لبنان ما بعد المحاكمة

المتهمون خمسة، والمدان واحد، ولكن المجرمين كثر. ويقف زعيم الكتيبة التابعة للحرس الثوري الإيراني في لبنان حسن نصرالله على رأسهم.

المحكمة الجنائية الدولية الخاصة قالت إنها لم تعثر على دليل يثبت أن لقيادة حزب الله أو لسوريا دورا في عملية الاغتيال، ولكنها قالت أيضا إن العملية نفذت لأغراض سياسية. ولم يمكنها تحديد عدد المتورطين فيها.

وكأي محكمة أخرى، فإنها بحثت عن دليل مادي، لا عن تكهنات حتى ولو كان العقل والمنطق لا يُملي على أحد سواها.

فأعمال الاغتيالات الكبرى، لا تنفذ إلا بقرار. وسواء عثرت المحاكم عليه أم لم تعثر، فإنه موجود.

المجلس العدلي اللبناني نفسه، لم يعثر على دليل يدين أحدا باغتيال المفتي حسن خالد، والشيخ صبحي الصالح، ورئيس الوزراء رشيد كرامي، والرئيس المنتخب بشير الجميل، والرئيس رينيه معوض، والصحافي سمير قصير، وزعيم الحزب الشيوعي اللبناني جورج حاوي، ورئيس تحرير “النهار” جبران تويني، ووزير الصناعة بيار أمين الجميل، ووزير المالية محمد شطح، وقبلهم زعيم الحركة الوطنية اللبنانية كمال جنبلاط، ورئيس تحرير مجلة الحوادث سليم اللوزي، والكثير غيرهم.

ولكن الجرائم التي تُنفذ لأغراض سياسية إنما تدل على فاعليها دائما. وعدم وجود دليل، هو دليل بحد ذاته على أنهم من المصاف الذي لا يترك وراءه أدلة. والأغراض السياسية إنما هي أغراضهم.

فهل كان يمكن لجريمة بحجم اغتيال رفيق الحريري أن تكون من عمل متهمين محدودين؟ وهل كان من المعقول ألا يكون حسن نصرالله هو المدبر الفعلي لها؟

ينفي حزب إيران في لبنان أن يكون له ضلع في الجريمة. والنفي نفسه دليل إدانة أخرى.

فالأدلة التي قدمتها المحكمة الدولية للإدانة ساطعة بما يكفي لكي تثبت أن مرتكبي الجريمة هم أعضاء في ذلك الحزب، وأنهم تصرفوا تنفيذا لأوامر من ذوي الأغراض السياسية، وحسن نصرالله واحد من أولهم في التدبير. وثاني اثنين في الأمر به.

والنكران إدانة، لأنه عملٌ جبان لعمل جبان. فالعملية نُفذت بطنين من المتفجرات، لا بكيلو ولا بكيلوين، وبشبكة هواتف خاصة، مما يتطلب تنظيما قادرا ودولة تجرؤ.

ولقد كان الأولى بحسن نصرالله، الذي لا يكف عن الظهور كمن يرتدي قناع الشجاعة، أن يخرج ليقول إنه هو من أمر بتنفيذ الجريمة وإنه فعل ذلك لأن رفيق الحريري كان يقود مشروعا مناهضا لإيران، وأنه أراد أن يعيد بناء علاقات لبنان الدولية والإقليمية على أساس مشروع تنموي، يُضعف مشروع النهب والتبعية المافياوية الذي يتبناه هو حيال لبنان.

الاعتراف بارتكاب الجريمة، كان يمكن أن يكون عملا شجاعا أكثر من نكرانها مع وجود كل الأدلة والحقائق التي استغرق جمعها والتدقيق فيها 13 عاما من جانب المحكمة، وكلفت نحو 600 مليون دولار.

ولكن هل ينفع النكران؟

بتعيين الحريري رئيسا للوزراء ارتفعت قيمة العملة اللبنانية وانخفض التضخم وانخفضت الضرائب وارتفعت معدلات النمو وتراجع الفقر، وبتحول نصرالله إلى حاكم بأمره حصل العكس تماما حتى انتهى لبنان الى إفلاس وخراب

اللبنانيون، كلهم، بمن فيهم التابعون لحزب إيران، يعرفون أن حزبهم هو المسؤول عن ارتكابها، وأن يدي حسن نصرالله تحنّتا بدم رفيق الحريري إلى الأبد. وأن العدالة التي يمنع حزب إيران من إحقاقها حيال منفذي الجريمة، ويتعمد إخفاءهم، سوف تصل إليه في نهاية المطاف.

وما من جريمة إلا وتظل تلاحق مرتكبها.

حزب إيران في لبنان يستطيع أن يرى الآن كيف أنه ساق لبنان بجرائمه الأخرى إلى الإفلاس والضياع. وأن هذه الجرائم تلاحقه، بالعزلة والإدانة. وستظل تفعل إلى يوم أن يتحرر لبنان من ربقة اللصوص والفاسدين والقتلة.

الإدانة الأهم، إنما هي إدانة الواقع. ذلك أن حزب العصابة قاد البلاد بمفرده، من الناحية العملية، إلى أن يدور الدورة كاملة من البناء الشامل، وهي العملية التي قادها رفيق الحريري ابتداء من العام 1992، إلى الخراب الشامل وهي العملية التي قادها حسن نصرالله منذ اغتيال الحريري إلى اليوم.

ذلك الاغتيال، كان في الواقع اغتيالا للبنان نفسه، وانتصارا لنظام الفساد ودولته الموازية على مؤسسات الدولة وشعب لبنان بكل أطيافه ومناطقه.

الحريري لم يكن مجرد رئيس وزراء. لقد كان مشروعا. وحسن نصرالله ليس مجرد زعيم عصابة، إنه مشروع.

بتعيين الحريري كرئيس للوزراء، ارتفعت قيمة العملة اللبنانية، وانخفض التضخم، وانخفضت الضرائب، وارتفعت معدلات النمو، وتراجع الفقر. وبتحول نصرالله إلى حاكم بأمره، حصل العكس تماما، حتى انتهينا إلى إفلاس وخراب. هذا هو مشروعه. واللبنانيون هم الذين يحاكمونه الآن. التظاهرات التي تسمي “نصرالله عدو الله”، والـ”الكلن يعني كلن” إنما تشير إلى المجرم بوضوح. وهو أجبن من أن يقدر على مواجهتها إلا بالسلاح؛ “سلاح المقاومة”. وسلاح المقاومة هذا كان بدوره مجرد تعبير رمزي، أو مجرد اسم حركي، لدولة العصابة الموازية الخاضعة له والتي تتحكم بالمعابر وتتاجر بالمخدرات، وتعيش على أعمال التهريب، وتهيمن على العديد من المفاصل الاقتصادية، بينما تترك لحلفائها الآخرين السيطرة على مفاصل أخرى.

وهو ما شكل الأساس لنظام الفساد القائم. حتى انتهت دولة العصابة إلى استهلاك معظم احتياطات المصرف المركزي، ودفعت لبنان إلى الإفلاس وارتفعت مديونيته إلى 92 مليار دولار أو ما يعادل 170 في المئة من الناتج الإجمالي، وعجز عن دفع أقساط الديون.

حزب إيران في لبنان الذي ظل يخاف من فقدانه للسلطة، يفقدها الآن بعزلته وافتضاح جرائمه، وهزيمة مشروعه.

في أبريل عام 2018 قاد سعد الحريري، على خطى أبيه، مسعى دوليا لإنقاذ لبنان في مؤتمر سيدر، وتعهدت أطرافه بتقديم تمويلات تبلغ 11 مليار دولار إلا أنها طالبت بتنفيذ إصلاحات لضمان عدم تسربها إلى منظومة الفساد، ولكن حزب إيران رفض تنفيذها دفاعا عن حقه في النهب والجريمة.

وامتثالا للحقيقة وهو بين فكي الرحى لواقع قاهر، وحزب عصابة شرس، قرر سعد الحريري الاستقالة، فجلب حزب إيران حسان دياب ليتولى الحكومة. وظلت الأزمة تتقد بين أيدي اللبنانيين فقرا وجوعا، حتى وقع انفجار مرفأ بيروت ليكون إشارة على أن لبنان كله بدأ ينهار، بينما ظلت دولة العصابة تضحك على مآسي الناس، وتتبرأ من المسؤولية.

نصّاب، مثل حسن نصرالله، ظل قادرا لوقت طويل، على الظهور بمظهر “المقاوم” الجسور. ولكن اللبنانيين، إذ باتوا يدفعون ثمن جرائمه، ولصوصيته، وانحطاط مراميه، لا يرون فيه اليوم إلا نصّابا، يبيع شرفا وهو داعر؛ إلا خادما لمشروع هدم وتخريب.

لبنان إنما يقف، بعد حكم المحكمة الجنائية الدولية، وبعد انفجار مرفأ بيروت، على مفترق طرق تاريخي، يفصل في الواقع بين لبنانين اثنين، أحدهما لبنان الناس، والآخر لبنان العصابة. لا هذا قادر على أن يتحمل بقاء ذاك، ولا ذاك قادر على أن يواصل الخداع بأنه ليس مجرد سلطة جريمة منظمة.

ولبنان التسويات، لم يعد بإمكانه العثور على تسوية.