علي الصراف يكتب:

دولة العصابة التي تسقط في ليبيا كما في العراق ولبنان

كان يكفي للموارد النفطية أن تتقلص لينزاح الستار عن حكومة فايز السراج. الآن، هو في محنة. فالاحتجاجات الشعبية التي تطالب باستقالة المجلس الرئاسي الذي يقوده السراج، وكل الأجسام السياسية الأخرى، وتطالب بإحالة السلطة إلى مجلس القضاء الأعلى، تعني أن سلطة العمالة والخنوع لتركيا، لم تعد قادرة على تمثيل الليبيين، لا في طرابلس ولا في أي مكان.

تلك السلطة التي راهنت على الميليشيات، وزادت البلاء، بالرهان على المرتزقة، أثبتت أنها لا شيء سوى سلطة مرتزقة بالمعنى العريض للكلمة. فهي تخدم مصالحها الخاصة، ومصالح ولاة أمرها، لا مصالح الشعب الليبي، ولا حتى عندما بدت تلك الميليشيات وكأنها قوة حماية للناس في بعض المدن والبلدات، مثل مصراتة والزاوية. فالميليشيات ميليشيات في النهاية، وسلوكيات العصابة جزء أصيل من طبيعتها. وككل عصابة أخرى، فإنها تعطي نفسها، ولا تعطي الناس.

سلطة المجلس الرئاسي أبعد من السراج نفسه، كشفت خلال الأعوام الخمسة الماضية أنها أعجز من أن ترسي أساسا لدولة، ولا بأي معنى من المعاني. لا هي تمكنت من توفير الخدمات الأساسية، ولا هي استطاعت أن تتحول إلى سلطة مؤسسات، وظلت الميليشيات فيها ميليشيات يتنازع كل منها على حصته من الكعكة. وظل ما يصل إلى باقي الليبيين شحيحا وهزيلا.

وبالرغم من كل الدعم والتمويل القطري السخي، فإنه كأي دعم يتوجه إلى عصابات، سرعان ما يتحول إلى مصدر إضافي للنهب.

قطر نفسها تعرف مسبقا لماذا تقوم بتمويل عصابات، وليس مؤسسات دولة. المشروع الإخواني لا يسمح بذلك، لأنه هو نفسه من الأساس مشروع عصابات.

الدوحة ليست غبية في هذا الباب. ذلك أن بناء مؤسسات دولة شيء لا يتوافق مع الغاية الرامية إلى إنتاج فوضى، وتوفير بيئة لنشأة منظمات إرهاب.

ولهذا السبب ظلت الميليشيات ميليشيات في طرابلس. يحكم كل منها قطاعا خاصا به، ليحصل على حصته من “تمويل الفوضى”.

وعندما نشأت الحاجة إلى التوسع، جاء المرتزقة لا لينافسوا تلك الميليشيات، ولا ليثيروا الحسد فيها، وإنما ليقدموا دليلا أهم من كل ذلك، هو أنها دلالة قاطعة على منهج يقوم، في الأساس، على الاستغناء عن الليبيين أنفسهم؛ الاستغناء عن الناس.

تحكم الميليشيات، في ليبيا كما في العراق ولبنان، وفقا لتصور لا يقيم أي اعتبار للناس. من ناحية لأنها ترهبهم، ومن ناحية أخرى لأنها تزعم حمايتهم، وهي تستمد شرعيتها من شيء واحد فقط: الفوضى.

وطالما ظلت الفوضى قائمة، والخوف هو السائد، ظلت الميليشيات هي الطرف الوحيد الذي يمكنه أن يكسب “شرعية القوة” وسلطة “الأمر الواقع”.

ما تصنعه قطر بالمال، تصنعه إيران بالعقيدة هو نفسه بالضبط. ميليشيات وعصابات هنا، وميليشيات وعصابات هناك. وكلاهما يذهب في ذات الاتجاه: الفوضى وتوفير البيئة المناسبة لنشأة منظمات الإرهاب.

بناء دولة هو العدو رقم واحد. وهذا، كما ثبت الحال في ليبيا والعراق ولبنان، مناسب تماما لحثالة القوم، وأرذلهم، ممن يحتمون بالعقيدة لينهبوا المال، ويفرضوا أنفسهم على الناس بالخوف والترهيب والاغتيالات، وليفسدوا ما شاء لهم الفساد.

هذه هي الطريقة الوحيدة التي تسمح بتدمير المجتمع و”تفكيكه إلى عناصره الأولية”، وهي ذاتها النظرية التي سيقت لغزو العراق. حتى تم شطب “الشعب العراقي” ليُصبح مجموعة طوائف، وليكون لكل طائفة ميليشياتها، ولتتنازع فيما بينها إلى يوم يبعثون.

ولكنْ، هناك شيء غبي واحد. هو أن هذه النظرية التي قامت على قاعدة الاستغناء عن الناس، وعلى تبديل هوياتهم لتصبح هويات ميليشياوية حصرا، انتهت إلى الفشل ليس لأنها أثمرت نظاما للفساد دفع إلى الفشل في كل اتجاه، ولكن لأن الناس ظلوا هم أنفسهم الناس.

الليبيون يقترحون على أنفسهم العصيان المدني، لكي يقولوا لسلطة الميليشيات إنها لا تمثلهم، بل لا تمثل إلا مشروع التخريب الذي تموله قطر وتزوده تركيا بالمرتزقة

ولئن تمكنت الميليشيات من شراء أرذلهم، فإنها لم تتمكن من شراء كل الناس. ولا هي قدمت هوية جامعة، ولا هي وفرت لهم ما يمنحهم الشعور بالمساواة ولا كانت قادرة، بطبيعة الحال، على أن تقتسم معهم المفاسد، بأدنى قدر من الإنصاف. ولو أنها فعلت ذلك، لأصبحت دولة، بينما المقصود هو الفوضى.

لماذا تحتاج إلى مرتزقة إذا كانت سلطتك تمثل مصالح الناس وتعبر عن تطلعاتهم وتمثلهم؟ لماذا لا يهب الناس أنفسهم للدفاع عن دولتهم؟

سؤال لا يستطيع مجلس السراج الإجابة عنه.

ولماذا تحتاج إيران إلى عصابات اغتيال وفساد إذا كانت تقدم للعراقيين، بعقيدتها الصفوية الشاذة، ما يجعلهم يشعرون أنها عقيدتهم؟ بل ولماذا تلك الميليشيات إذا كانت الدولة العراقية كلها تحت الحذاء؟

قطر وتركيا وإيران تعرف الجواب. ليست غبية إلى ذلك الحد. فهي تعرف جيدا ما تريده من دعم العصابات. وما يحصل، بتمويلات العقيدة أو بتمويلات المال، مقصود بذاته لذاته. فالخراب هو البيئة الوحيدة المناسبة لإنتاج منظمات إرهاب ولتحويل مجتمعات المنطقة كلها إلى مجتمعات تتفكك إلى “عناصرها الأولية”.

اليوم، يعرف السراج ما تعرفه ميليشيات الولي الفقيه في العراق وما يعرفه حزب الشيطان في لبنان. وهو أن هناك شعبا عصيا على الاستغناء.

الغائب الذي بدا خارج المعادلات، يعود ليلقي بثقله في الشارع. بل ويمكنه أن يلغي سلطة التفكك نفسها وشبكة الفساد.

الليبيون يقترحون على أنفسهم العصيان المدني، لكي يقولوا لسلطة الميليشيات إنها لا تمثلهم في شيء، بل لا تمثل إلا مشروع التخريب الذي تموله قطر، وتزوده تركيا بالمرتزقة.

وليس العار أن تطلق تلك الميليشيات النار على الناس. فهذا شيء طبيعي، إنما هي نفسها العار. وإنما من يمولونها هم العار. وإنما من يضخون فيها عقيدة القتل والخراب هم العار.

كان يكفي أن تشح الموارد على سلطة السراج لكي تكشف عن وجهها الطبيعي.

وتكتشف قطر الآن، أنها لن تعوض النقص على عصاباتها، لأنها سوف تواجه الإفلاس. فالعصابات يمكنها أن تستهلك مال قارون وتظل تطلب المزيد. ويظل الحال هو ذاته الحال، حتى انكشف البؤس على الناس، فانتفضوا.

وكان يكفي أن تشح الموارد على دولة العصابات في العراق حتى لم يعد بوسعها أن تلقي القبض على مصائر كل الناس، فانتفضوا.

الحال نفسه تكرر في لبنان. فدولة العصابة هناك ظلت تنهب الموارد حتى دفعت البلاد إلى الإفلاس. والطائفية التي بدت وكأنها هوية عامة، وكفلت الحماية لنظام ميليشياوي، بسلاح ومن دون سلاح، عجزت في النهاية عن أن تخدم طوائفها. فعاد اللبنانيون ليكتشفوا لبنانيتهم، ما يشكل انقلابا مُعجزا على هويات فرعية ترافقت مع نشأة لبنان الحديث نفسه. رأى الناس ما فعلته العقيدة والعصابة بالجميع، فانتفضوا.

الشح، كان هو الذي كشف الغطاء، وأظهر العار على طبيعته كعار، سواء تسلح بالعقيدة أو تسلح بالمال.

الانتفاضة ضد دولة العصابة في ليبيا والعراق ولبنان، تقدم مؤشرا واحدا يوجز الدلالات كلها: لا تقم نظاما يستغني عن الناس. لا تراهن على عصابة، لا بالعقيدة ولا بالمال.