سليمان جودة يكتب:

هذه اللغة الواضحة التي تتحدث بها الرياض!

إذا جاز للمتابع أن يسمي هذه الأيام بشيء على مستوى العلاقة بين المنطقة وواشنطن، فهذا الشيء هو أنها أيام تمثل موسماً متجدداً من مواسم العودة الأميركية إلى الشرق الأوسط!
هو موسم يتجدد كل أربع سنوات مع كل سباق أميركي جديد نحو البيت الأبيض، وقد بلغ السباق ذروته في الوقت الحالي، وليس سراً أن الأسبوع الأول من نوفمبر (تشرين الثاني) هو موعد الأميركيين مع منح دونالد ترمب فرصة ثانية وأخيرة، أو فتح الطريق أمام المرشح المنافس جوزيف بايدن إلى المكتب البيضاوي، وليس هناك وقت أفضل من هذه الفترة الزمنية أمام ترمب وبايدن يخاطبان خلاله المنطقة ويغازلان أهلها، لعل ذلك يجدي في حصد المزيد من الأصوات في صناديق الاقتراع!
لقد سمعنا وقرأنا كثيراً عن أن منطقتنا فقدت وتفقد أهميتها لدى صانع القرار الأميركي، وقد سمعنا وقرأنا طويلاً عن أن الاهتمام البديل هو بمنطقة الشرق الأقصى حيث الصين بالذات، وحيث معارك الاقتصاد التي لا تتوارى بين بكين وواشنطن، إلا لتعود إلى الواجهة مرة أخرى!
مثل هذا الكلام يستند بالطبع إلى منطق، والمنطق هو أن ضرورة منطقتنا للأميركان تقوم على قدمين، إحداهما بترول العرب الذي لا يزال يتفجر في أرضهم، والأخرى هي إسرائيل التي قامت في القلب من أرضهم ولا تزال يساورها شعور بأنها كيان غير مرغوب فيه!
وبقية المنطق تقول إن العاصمة الأميركية أنتجت وتنتج البترول الصخري وإنه سوف يغنيها عن بترولنا، وإن اتفاق السلام الذي جرى توقيعه بين تل أبيب والقاهرة في 1979 قد جعل إسرائيل في أمان نسبياً، وأن رحيل الولايات المتحدة بالتالي إلى حيث تقع الصين قد جاء أوانه وحان وقته!
ولكن التجربة تقول إن هذا كلام تنقصه الدقة، وإن فارقاً يقوم على الدوام بين الكلام وبين الواقع الحي على الأرض، وإن البترول الصخري لا يغني عن البترول العربي، وإن سلام إسرائيل مع مصر والأردن معاً لا يكفي، وإنها في حاجة إلى سلام مماثل مع سائر عواصم العرب!
ولهذا... استيقظت المنطقة هذا الأسبوع على زيارات بدأت وسوف تتوالى من جانب الساسة الكبار في إدارة الرئيس ترمب!
ولا يخفى على أحد أن هناك علاقة مباشرة بين هذه الزيارات، وبين المعركة الكبرى التي يخوضها الرئيس الأميركي مع الديمقراطيين على المكتب البيضاوي... فكلها أسابيع معدودة على أصابع اليدين ليتحدد اسم ساكن هذا المكتب لأربع سنوات مقبلة!
وهذا الساكن سوف يدخل مكتبه بأصوات ناخبيه، لا بالمجاملة، ولا بالواسطة، ولا بتطييب الخواطر، ولا بالعطف والإشفاق!
والحرب بين الفريقين الآن هي على عقل الناخب الأميركي وعلى وجدانه، ثم على قدرة كل فريق من الفريقين المتنافسين على استمالة هذا الناخب إلى صفه، وإقناعه بأنه كفريق سياسي أنسب من الفريق الآخر لحكم البلاد وحفظ مكانتها!
وليس من المبالغة في شيء أن يقال إن الطريق إلى عقل قطاع لا بأس به من الناخبين الأميركيين إنما يبدأ من هنا في المنطقة، وهذا القطاع هو الذي يهتم من موقعه هناك في الولايات المتحدة، بالوضعية التي تكون عليها إسرائيل بين جيرانها العرب في الاتجاهات الأربعة!
ولذلك، يجيء إلينا مايك بومبيو، وزير الخارجية الأميركي، ومن بعده سوف يجيء جاريد كوشنر، صهر ترمب ومستشاره، ومعه روبرت أوبراين، مستشار الأمن القومي، ومعهما آخرون من ذات الوزن السياسي الكبير، وجميعهم من جنرالات السياسة الذين لا يمكن أن يتوجهوا إلى منطقة واحدة وفي توقيت واحد، إلا لمهمة محددة هي التسويق للمرشح ترمب أمام الناخب المهتم، وأمام مؤسسات الضغط القادرة هناك في الولايات المتحدة على توجيه ناخبيها بتأثير مما تتابعه وتراه من الخطوات هنا!
ويعرف الجميع أن الإمارات أعلنت عن إطلاق علاقاتها مع إسرائيل في الثالث عشر من هذا الشهر، وأن اتفاقاً بين البلدين سيجري توقيعه قريباً بهذا الشأن، وأنها ليست صدفة أن تكون إسرائيل هي المحطة الأولى في زيارة بومبيو، وأن تكون الإمارات هي المحطة الثانية، لولا أن جدول الزيارة دخل عليه تعديل في اللحظات الأخيرة، فجعل الإمارات محطة بين محطات!
ولا هي من المصادفات أن يكون على جدول زيارة كوشنر وأوبراين عدد من عواصم المنطقة، التي تظل إحداها مرشحة لأن تلحق بأبوظبي في قطار إطلاق العلاقات مع العاصمة العبرية!
والحقيقة أن اسم الدولة التي كان كوشنر قد أشار إليها في حديث له مع قناة «فوكس نيوز» الجمعة قبل الماضية، بوصفها الدولة التالية في اللحاق بقطار إطلاق العلاقات مع تل أبيب، ليس هو الشيء المهم في هذا السياق المتسارع، فالأهم هو ماذا ستقوله هذه الدولة لوزير الخارجية بومبيو إذا زارها، أو لصهر الرئيس ومستشاره، أو لمستشار الرئيس للأمن القومي، أو لسواهم ممن يبدو أنهم سيتوافدون علينا في المنطقة من هنا إلى ما قبل حسم السباق الرئاسي بقليل؟!
ماذا على هذه الدولة التي لا يزال اسمها في علم الغيب أن تقوله لهم جميعاً، إذا جاءوا يخطبون ودها ويطلبون إطلاق قطار علاقاتها مع إسرائيل؟!
في محاولة للإجابة عن السؤال، فإن لهذه الدولة أن تقتدي بالمملكة العربية السعودية، وأن تتحدث مع الأميركيين اللغة نفسها التي تحدثها الأمير فيصل بن فرحان، وزير الخارجية السعودي، عندما عقد مؤتمراً صحافياً مشتركاً مع نظيره الألماني قبل أيام!
كان حديث الوزير بن فرحان في وضوح الشمس، فقال إن بلاده تتطلع إلى السلام في منطقتها بوصفه خياراً استراتيجياً، وإنها تتمسك بحل الدولتين ولا ترى بديلاً في الطريق إلى هذا الحل، سوى مبادرة السلام العربية التي جرى طرحها في القمة العربية المنعقدة في بيروت في مارس (آذار) 2002، والتي تجعل السلام مع إسرائيل مقترناً بالأرض يداً بيد!
هذه مبادرة يميزها أنها تحظى منذ إعلانها باعتراف العالم، الذي يهمه استقرار المنطقة بقيام دولة فلسطينية إلى جوار الدولة الإسرائيلية، وتحظى كذلك بتأييد عربي وإسلامي، وتحظى في ذات الوقت برضا فلسطيني كامل، ومع الرضا الفلسطيني تحظى بقبول قطاعات داخل الإسرائيليين تؤمن بأنه لا سبيل أمام دولتهم للعيش الآمن في منطقتها، إلا بقيام دولة فلسطينية جنباً إلى جنب!
هذا ما تقول به المبادرة العربية اختصاراً، وهذا ما تحدث به الوزير السعودي وضوحاً، وهذا هو النهج الذي لا بديل عنه أمام كل عاصمة عربية يطرق بابها الأميركيون، يخطبون الود ويطلبون القرب ويدعون إلى سلام يدوم، وهو لن يدوم إلا بمقابل تدفعه إسرائيل راضية!
حديث العاصمة السعودية الواضح أنها مع السلام كخيار في أي طريق، ولكنه السلام الذي تبذل إسرائيل من أجله ثمناً يتمثل في الأرض المحتلة، وفي الدولة الفلسطينية التي يقول بها حل الدولتين، والتي لا سلام سوف تعرفه المنطقة إلا إذا قامت هذه الدولة في مكانها واستقرت!