علي الصراف يكتب:

التطبيع، الثمن وشرف القول

ما من دولة عربية، طبّعت أم لم تطبّع مع إسرائيل، أنكرت على الفلسطينيين حقوقهم، أو تخلت عنها، أو أعلنت نفسها مفاوضا بالنيابة عنهم، أو حتى قلصت التزاماتها التضامنية، السياسية والمادية، معهم.

هذه حقيقة لا يمكن لأحد أن ينكرها، حتى ولو كان أحمق. لأنه ما من وقائع، على الإطلاق، تدل على شيء آخر.

والتطبيع الذي يتم مقابل ثمن، هو الجزء الآخر من المعادلة دائما، وهو ما تأكد بين كل الذين “طبَعوا” علاقاتهم مع إسرائيل.

إذن، عندما تهدر بالهجوم على الإمارات، دون سواها، أفأنت تهاجم التطبيع أم أنك تهاجم الثمن؟

مهاجمة تطبيع تقوم به أي دولة عربية، يتطلب اتساقا، في نطاق شرف القول، مع كل تطبيع آخر. بمعنى أن تهاجمه كله من دون استثناء، من ناحية المبدأ. لأنه يصيب بالضرر استراتيجية ما، تتبناها.

أما إذا لم يكن ذلك كذلك، وأما ألا تكون لديك استراتيجية واضحة من الأساس، فالأمر سوف يعني أن الثمن لم يعجبك. وأنك لست ضد التطبيع من حيث المبدأ، وإنما ضد ما يمكن الحصول عليه من بعده.

الهجوم الشرس على الإمارات، يعني أحد هذين الاثنين: فهو إما أنك ضد المبدأ، وإما أنك ضد الثمن.

ولو أن شرف القول هو الحاكم، فإن على صاحبه، إما أن يندد بالتطبيع كله، بما في ذلك التطبيع المصري والأردني، وإما أن يجادل في الثمن. بمعنى أن يقول إنه كان يريد أن يحصل على بطيختين بدلا من واحدة. وفي هذه الحال، فإن القصة لن تعود، ولا بأي شكل من الأشكال، قصة مبادئ ولا مقدسات. لأن كل استدعاء لها سوف يبدو فارغا، وبلا ضمير.

السعودية لم تنتقد موقف الإمارات على الإطلاق، وهي الحليف الأقرب. شيء ملفت. بل حرصت على أن تُظهر تفهما ليس لدوافعه فحسب، بل للنهج نفسه أيضا. وكذلك كان موقف كل الدول العربية الأخرى.

بالمعنى الاستراتيجي، فإن إسرائيل، تخلت عن ضم المزيد من الأراضي الفلسطينية لكي يبقى ما تحدد في اتفاقات أوسلو من دون انتهاك، ومن دون أن يعقبه دمار كل شيء.

لقد كانت تلك “ضربة معلم” بكل معنى من معاني الكلمة. الضربة التالية، هي أن إسرائيل صارت تفهم أن للتطبيع، مع أي دولة عربية أخرى، ثمنا يتعين أن يُدفع. السعودية، حددت الثمن. والمملكة المغربية فعلت الشيء نفسه، وصار بوسع كل دولة عربية ترغب إسرائيل في التطبيع معها، أن تحدد الثمن.

ضربة المعلم، في وجهها الآخر، هي أن الإمارات قيّدت، في الواقع، كل مساعي التطبيع الأخرى. وأوقفت حال التسيّب فيه، الذي ظل المسؤولون الإسرائيليون ينتهزون فرصه من أجل “التحرش” بهذا المسؤول العربي أو ذاك، في هذه المناسبة أو تلك.

لقد بات الثمن هو كفة الميزان الأخرى، التي يتعين على إسرائيل أن تتفحصها، وأن تكف عن التدافع بالأكتاف من أجل مصافحة زعيم عربي في ممر من ممرات الأمم المتحدة.

الآن، أأنت ضد التطبيع أم ضد الثمن؟

هل كانت السلطة الفلسطينية تريد لمشروع ضم المزيد من الأراضي في الضفة الغربية وغور الأردن، أن يمضي قدما؟

مطالعة العويل تكفي دليلا على أن السلطة الفلسطينية نفسها كانت تحت طائلة التهديد، وأن “ضربة معلم” حقيقية، هي التي أوقفت الانهيار.

أن تكون شكورا، أو لا تكون، فهي ليست مشكلة. ولكن أن تندد بمن أنقذك من الورطة، فهي مشكلة أخلاقية حقا، “سيبك” من السياسة. لأن ما تفعله لا علاقة له بالسياسة أصلا.

أما التطبيع نفسه، فالحقيقة هي أن السلطة الفلسطينية رائدة وقائدة وصاحبة اليد الطولى فيه، إنما من أجل ثمن أيضا.

ولا أحد بين الدول العربية التي دفعت ثمن الحروب والتضحيات الجمّة من أجل تحرير فلسطين، هاجمها على ذلك، لا من حيث المبدأ، ولا من حيث الثمن.

العرب الذين وجدوا أنفسهم مقاتلين في جبهة فلسطينية أو أخرى، كان بوسعهم هم أيضا، أن ينددوا، على الوتيرة نفسها، بالتطبيع الفلسطيني. إما من حيث المبدأ، أو لأن الثمن لم يعجبهم. إلا أنهم ظلوا صامتين كمن يرضى من الغنيمة بالإياب. لأن الصمت كان أقرب إلى شرف القول من أي قول.

في جميع الأحوال، ما من أحد تخلى عن حق، وما من أحد تنازل عن شيء لم تتنازل عنه منظمة التحرير الفلسطينية نفسها.

أفليس من شرف القول، أن يكون هذا هو القول؟