مختار الدبابي يكتب:

حكومة تعميق الأزمات في تونس

قد يظهر للمراقبين الخارجيين أن تونس تستمر في الحفاظ على تجربتها الديمقراطية رغم الصعوبات السياسية كونها قد نجحت في تشكيل حكومة جديدة.

لكن الأمر لا يقف عند الديمقراطية وإجراءاتها وأدواتها الشكلية الظاهرة للمولعين بالتصنيفات، ذلك أن الإصرار على لعبة تنزيل الديمقراطية وجلب الأضواء والإشادات بالنموذج “الفريد” في المنطقة يستمر بمراكمة الأزمات، ليس بسبب الديمقراطية والانتقال السياسي، ولكن لعجز الطبقة الحزبية التي تدير شؤون البلاد منذ 2011.

ويفتح مرور حكومة هشام المشيشي أمام البرلمان الوضع على صراع جديد بين المؤسسة التشريعية والكتل النافذة فيها، وخاصة حركة النهضة وحليفها حزب “قلب تونس”، وبين الرئيس قيس سعيّد بسبب سيطرة خيار المغالبة بدل التعاون والالتزام بالحدود التي رسمها الدستور لصلاحيات كل جهة.

لم يكن مرور الحكومة الجديدة مؤشرا على تهدئة وحوار بين رؤوس المؤسسات الدستورية بل سيفتح هذا المرور الباب أمام معارك النفوذ الحامية داخل الدولة على أن تستفيد كل جهة من تأويلها للدستور والصلاحيات التي يمنحها كغطاء لرغبتها في السيطرة، وهو أمر سيتعمق أكثر بسبب المناطق الرمادية التي تركها دستور 2014 والثغرات التي تسمح بالتأويل ونقيضه.

ومن الواضح أن الرئيس قيس سعيّد قد خسر نقاطا كثيرة من خلال تمرير حكومة المشيشي، وهو الذي شكلها بنفسه من خلال اختيار رئيسها والنأي بها عن الأحزاب، فضلا عن وجود حقائب بأسماء محسوبين عليه من رجال القانون والقضاء.

ودفع التراجع المفاجئ للرئيس عن دعم حكومة كانت توصف على نطاق واسع بأنها حكومته إلى لخبطة في قائمة الداعمين والمعارضين، لكن اللافت هنا هو اضطرار قيس سعيّد إلى الاستنجاد بالأحزاب ورئيس البرلمان راشد الغنوشي، وأساسا بحركة النهضة التي أفشلت حكومة الرئيس الأولى، ومثلت عنصر تحدّ أمام مساعي الرئيس لتعديل موازين النظام السياسي الهجين والملخبط واستعادة مؤسسة الرئاسة للقرار والمبادرة.

وكان لقاء قيس سعيّد بالغنوشي ثم بالأحزاب الأربعة التي كانت في قلب تحالف الحكومة السابقة مصحوبا بتسريبات وإشاعات وتصريحات مكثفة خلقت مناخا بدا فيه الرئيس التونسي في حالة تراجع واضح، وأنه عرض “تنازلات” تقوّي من دور الأحزاب مقابل منع مرور حكومة جديدة الخطأ الذي ارتكبته أن رئيسها المشيشي اختلف مع الرئيس وبعض الفاعلين في قصر قرطاج حول بعض الأسماء، وهو اختلاف لا يرتبط بنوعية الكفاءات بقدر ارتباطه برغبة رئيس الحكومة في فرض مقربين منه مثلما فعلت مؤسسة الرئاسة.

والتجأ المشيشي نفسه إلى الأحزاب والتقى رئيس البرلمان في خطوة بدا أن الهدف منها الاستقواء على الرئيس والحصول على الثقة دون تسوية الخلافات بين رأسيْ السلطة التنفيذية، وهي خلافات بسيطة وثانوية كان يمكن تجاوزها.

ومن الواضح أن الخلاف بين قيس سعيد والمشيشي سيستعيد صورة الخلاف القديم بين الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي ورئيس حكومته وقتها يوسف الشاهد الذي لم يكن معروفا واختاره السبسي في سياق تصعيد الكفاءات الشابة قبل أن تقوده الرغبة في التحرر من النفوذ المعنوي لرئيس الجمهورية والمحيطين به إلى الاحتماء بالنهضة والحكم من خلال نفوذها في البرلمان، وهو ما سيتكرر مع المشيشي، وربما بأكثر حدة.

وإذا كان السبسي تعامل مع “تمرد” الشاهد بهدوء وحرص على عدم إرباك مؤسسات الدولة، فهل سيقبل قيس سعيد بـ”تمرد” المشيشي، ويعطيه الفرصة الكاملة لإدارة الحكومة وينأى بنفسه عنها، ويعطي الفرصة للغنوشي ليكون اللاعب المحوري في المرحلة المقبلة؟

وهذا أمر مستبعد، إذا عدنا لحيثيات الصراع في الأشهر الأخيرة بين الرجلين، وهو صراع بات علنيا ومكشوفا، فضلا عن أن الرئيس سعيّد، الذي لا يخفي مسعاه لتغيير النظام السياسي الحالي، لا يمكن أن يرمي المنديل ويكتفي بصلاحيات شرفية، وهو الذي يمتلك الشرعية الشعبية الأقوى بحسب نتائج الانتخابات.

وقد عكست كلمة رئيس البرلمان بعد تمرير حكومة المشيشي الإحساس بـ”الانتصار” على مؤسسة الرئاسة من خلال القول إن “البرلمان مصدر السلطة، وكما أنه قادر على منح الثقة قادر أيضا على سحبها. وهذا المجلس سحب الثقة من أكثر من حكومة”.

وسيحاول البرلمان الاستفادة من تراجع قيس سعيّد، خاصة في ظل مخاوف الأحزاب من خطط الرئيس، بما في ذلك حلفاؤه في حكومة الرئيس 1. ويرجح أن تكون المرحلة القادمة مرحلة تغيير القانون الانتخابي وتحسينه ليتماشى مع الأحزاب وخاصة النهضة و”قلب تونس” بما يتناقض مع مساعي الرئيس لنظام انتخابي مغاير يقوم على الديمقراطية الشعبية والانتخاب على الأفراد.

لكن مصير المحكمة الدستورية سيكون نقطة الخلاف الرئيسية، فهي لا تتشكل دون عناصر تختارهم مؤسسة الرئاسة التي لا يبدو أن في صالحها تشكيل محكمة تسحب من الرئيس صلاحية تأويل الدستور، وتسلمها لخصومه كونهم أغلبية في البرلمان وأغلبية في المحكمة حسب ما تقتضيه شروط تكوينها.

ومن المهم الإشارة إلى أن الأحزاب التي دعمت حكومة المشيشي سحبت من الرئيس سعيّد ورقة حل البرلمان، لكن لعبة تأويل الدستور والصلاحيات لن تقف بالأزمة السياسية قبل الانتخابات الرئاسية القادمة، أي بعد أربع سنوات أخرى، وهو ما يجعل البلاد مرتهنة للصراع السياسي مقابل تهميش الملفات الاقتصادية والاجتماعية.

وما يثير المخاوف أن حكومة المشيشي، إذا استثنينا الحقائب السيادية المرتبطة برئاسة الجمهورية، وهي حقائب ترضية وتدعيم للحزام الرئاسي، تضم كفاءات محدودة التجربة والخبرات، خاصة أن أغلب الكفاءات قد وظفتها الحكومات السابقة وباتت محسوبة على هذه الجهة أو تلك، وهو ما يجعل مقاربة الأزمات بقوة أمرا صعبا إن لم يكن مستحيلا.

وقد عكست كلمة المشيشي في جلسة منح الثقة، الثلاثاء، الأزمة في عمقها من خلال الإقرار بصعوبة الخروج من النفق وأن دور حكومته سيكون وقف النزيف فقط، خاصة في “المالية العمومية”، حيث دأبت حكومات ما بعد الثورة على الإنفاق السخي في سياق سياسة شراء السلم الاجتماعي من خلال زيادات متتالية في الرواتب والعلاوات، وإغراق القطاع العام بالانتدابات، وخاصة استرضاء الاتحاد العام التونسي للشغل.

ويحذر خبراء اقتصاديون من أن الحكومة الجديدة إذا استمرت في إغراق الدولة بالإنفاق ستجد نفسها في مواجهة الصناديق المالية الدولية، وأن القروض، التي يتم توظيفها في شراء الولاءات الداخلية بدل الاستثمار ودعم المؤسسات الاقتصادية، قد تتوقف بشكل كامل، وأن البلاد تسير إلى النموذج اللبناني، حيث باتت الدول المانحة تتدخل في تحديد شكل الحكومة والمشاركين فيها وتتقصى في كيفية صرف الدعم الدولي.