مختار الدبابي يكتب:

العودة إلى بن علي

أعاد القيادي في حركة النهضة لطفي زيتون الجدل حول الرئيس التونسي الراحل زين العابدين بن علي إلى الواجهة حين حثّ الجهات الرسمية على العفو عن أقاربه والسماح بعودة الموجودين منهم بالخارج، وتزامنت هذه الدعوة مع الذكرى الأولى لرحيله ودفنه في السعودية بعيدا عن البلاد.

وخارج المزايدات التي هاجمت زيتون وخوّنته أو تلك التي مدحت، فإن الحديث عن العودة إلى بن علي أخذ أبعادا أخرى في ظل الأزمة الخانقة التي تعيشها البلاد، وغياب الدولة ورموزها السياسية عن مواجهة الأزمات، وخاصة وباء كورونا، حيث بات الناس، وبشكل علني متزايد يترحّمون على زمن الرئيس التونسي الراحل ونجاحه في الحفاظ على توازن الدولة والإيفاء بتعهداتها رغم الظروف الاقتصادية الصعبة دوليا خاصة بعد ارتدادات الأزمة المالية في 2008، والبرود في العلاقة مع الولايات المتحدة.

وزاد رئيس الحكومة الجديد هشام المشيشي في تغذية الجدل حول الحنين إلى زمن ما قبل الثورة حين عيّن شخصيتين بارزتين من حكم بن علي كمستشارين اقتصاديين له (توفيق بكار ومنجي صفرة)، في خطوة يقول المتابعون للشأن التونسي إنها تقطع مع المكابرة التي مارستها أحزاب ما بعد الثورة في الاستفادة من وزراء وكفاءات بن علي والالتجاء إلى مسؤولين درجة ثانية وثالثة للعمل معهم بدل الالتجاء إلى خبرات ماسكة بالملفات ولديها رؤية واضحة في كيفية إدارة الأزمة الاقتصادية.

وشغل توفيق بكار مناصب عديدة في الدولة ما قبل 2011، فكان وزيرا للتنمية الاقتصادية، ووزيرا للمالية، كما شغل منذ 2004 منصب محافظ البنك المركزي التونسي وبقي إلى آخر لحظة من عمر حكم بن علي.

في المقابل، عمل منجي صفرة في خطة وزير الشؤون الاقتصادية (كاتب دولة كما يسمى في تونس) ثم شغل مستشارا لبن علي مكلفا بالملف الاقتصادي.

عودة المشيشي، التكنوقراط، إلى خبراء بن علي فيها اعتراف صريح بأن أحزاب ما بعد الثورة فشلت خلال عشر سنوات في تقديم بدائل بالرغم من الصراخ العالي للشعارات يمينا ويسارا حول العدالة الاجتماعية والاقتصاد التضامني واستثمار صورة الثورة لجلب الدعم الدولي.

كل ذلك انتهى إلى أزمة دفعت الصناديق المالية الدولية، والجهات المانحة أوروبيا وعربيا، إلى مراجعة سقف التفاؤل الذي منحته لتونس، وبدأت تضع الشروط القاسية قبل تقديم القروض والتمويلات والهبات خاصة مع انتشار الفساد وتحول طيف واسع من الطبقة السياسية إلى وسيط في إدارة لعبة الفساد وضرب قدرات الدولة لفائدة رجال أعمال فاسدين.

وتجاوزت دولة ما بعد الثورة أداء حكومات بن علي في حجم الفساد والمحسوبية وهدر المال العام، فضلا عن تعطيل المشاريع الكبرى والصغرى، والتهاون في وقف إضرابات تمسّ قطاعات حيوية مثل النفط والفوسفات، خاصة أن بعض تلك الإضرابات هي تعطيل منظّم تقف وراءه جهات فاسدة معلومة بالاسم والصفة، ومؤسسات الدولة راضية بذلك (في سياق لعبة شراء الصداقات التي تعتمد عليها الطبقة السياسية الوافدة على الدولة في تثبيت نفوذها).

وما يمكن الإشارة إليه هنا إلى أن رؤوس الحكم الثلاثة (رئيس الجمهورية قيس سعيد، ورئيس البرلمان راشد الغنوشي، ورؤساء الحكومات المتعاقبة) تعاملت مع الفساد كأمر واقع، ولم تضعه مقياسا في تعييناتها وعلاقاتها، وهو ما كشفت عنه قضية تضارب المصالح وشبهات الفساد لدى رئيس الحكومة السابق إلياس الفخفاخ، والتي تم التعامل معها ببرود شديد وتمسك الرئيس سعيد ببقاء الفخفاخ لآخر لحظة في منصبه رقم استقالة حكومته، وسكت الجميع أمام موجة كبيرة من التعيينات والإقالات التي نفذها الفخفاخ لتحييد الخصوم وتقريب الأصدقاء.

وانسحبت هذه الصورة الدراماتيكية على علاقات تونس الخارجية وحضورها الدولي، حيث تخلت الدولة عن تماسك مواقفها وأدائها واحتكمت إلى المزاجية ومنطق “أنا أو لا أحد”، وهو ما بدا في إقالة سفيرين لتونس بالأمم المتحدة خلال أقل من عام، في تزامن مع عضوية تونس لمجلس الأمن، وكلاهما عيّنه الرئيس سعيّد ثم تخلى عنه تحت مسوغات غير مقنعة، ما حدا بالسفير الذي تمت إقالته في الفترة الأخيرة إلى الخروج إلى العلن وانتقاد أداء رئيس الجمهورية وتأثير المحيطين به في القصر.

صورة الدولة المرتبكة تنسحب على علاقات تونس الخارجية، حيث تخلت عن تماسك مواقفها واحتكمت إلى المزاجية ومنطق {أنا أو لا أحد}، وهو ما بدا في إقالة سفيرين لتونس بالأمم المتحدة خلال أقل من عام

ومن صور ذلك الارتباك الموقف من ليبيا، حيث راوحت تونس موقفها من دعم المجموعات المتمركزة في طرابلس، وذلك في عهد النهضة التي أدارت الملف بأمزجة وحسابات خارجية، وعهد الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي الذي كان يسعى للحفاظ على المصالح الاقتصادية والتجارية لشركات تونسية في الغرب الليبي، إلى انقطاع كامل عن الملف من خلال سياسة النأي بالنفس، في خطوة كان هدفها التهرب من الانتقادات التي تأتي من داعمي هذا الفريق أو ذاك وتَجنُّبِ ضغوطٍ خارجية بدا أن الرئاسة التونسية لم تتحملها واختارت الجلوس فوق الربوة.

ومع تقدم الوقت، يكتشف التونسيون أن مسار الحل السياسي في ليبيا سيفضي إلى تقاسم مصالح بين الدول المؤثرة في النزاع سواء عسكريا أو دبلوماسيا، وهي من ستفوز بكعكة الاستثمارات، وأن دور تونس أن تراقب وتنتظر.

وتقول أوساط دبلوماسية تونسية إن الأداء المتراخي لممثلي الدولة ما بعد 2011 يعود إلى سيطرة الأحزاب، والمجموعات المحسوبة على الثورة، على قطاع لا يحتاج إلى شعارات أو مبادرات هلامية، مثل مبادرة مجلس القبائل في استعادة لتجربة لويا جيركا في أفغانستان، ولكن إلى توظيف شبكة العلاقات التي بنتها الدبلوماسية التونسية في عقود.

وأثرت الاعتباطية والتسرع على أداء الدولة التونسية في أكثر الملفات الخارجية حساسية، ملف الهجرة والعلاقات مع الاتحاد الأوروبي، وهو ما عكسه الجدل حول تصريحات رسمية إيطالية تقول إن روما هددت تونس بوقف المساعدات الأوروبية إذا لم تتول ضبط حدودها البحرية ومنع مراكب المهاجرين التي تنطلق منها باتجاه إيطاليا.

وثار لغط كبير بعد زيارة وزيري الخارجية والداخلية الإيطاليين إلى تونس ولقاء الرئيس سعيد الذي أطلق تصريحات مفادها وجود مؤامرة سياسية وراء موجات تهريب البشر من تونس باتجاه أوروبا، ثم توقف تسلل المراكب لفترة تحت ضغط قوي من الرئيس التونسي قبل أن تعود الحركة إلى عادتها.

ويقول الخبراء إن ضعف الموقف التونسي، الناجم عن تراجع الدبلوماسية، وضعف التجربة لدى القيادات العليا في البلاد قد جرّ تونس إلى مربع قديم كان بن علي من أكبر معارضيه، وهو أن تلعب تونس دور الشرطي لحماية أوروبا من ظاهرة معقدّة ناجمة عن فشل النظام الاقتصادي الدولي في أفريقيا وجنوب المتوسط، وأن تونس لا تقبل أن تدفع ضريبته سواء من خلال الاستغراق في المواجهة الأمنية وما قد تحمله من ردود عنيفة على استقرارها، أو من خلال مشاريع المحتشدات البرية أو البحرية التي تعهّد الأوروبيون بتمويلها مقابل أن تتولى تونس حراستها. والأمر لم يتوقف على تونس، بل خطا المغرب والجزائر نفس الخطوات وطالبا بحلول اقتصادية دولية بدلا من التعاطي الأمني.

وطالب رمضان بن عمر، الناطق الرسمي باسم المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، في تصريحات صحافية، الثلاثاء، السلطات التونسية بمراجعة الاتفاقيات غير العادلة مع إيطاليا، مثل الترحيل القسري، ولعب دور بوليس الحدود.

وأشار إلى أن تونس باتت تقوم بدور الشرطي في المتوسط منذ 2015 بعد منحها حزمة من الإعانات من قبل الجانب الأوروبي تتمثّل في إمكانيات لوجيستية وتجهيزات إضافة إلى التدريبات المشتركة من أجل اعتراض قوارب الهجرة.

وبالنتيجة، فإن دولة ما بعد 2011 تعيش حالة من الارتباك والفوضى، ولن تقدر على الخروج من هذا النفق دون العودة إلى مقومات الدولة التونسية التي تأسست من عهد بورقيبة ثم بن علي، مقومات تنتصر للعمل والتواضع وتبحث عن حلول خادمة للناس، بعيدا عن المُثل والشعارات الوافدة من كتب التاريخ..