مختار الدبابي يكتب:
من ينقذ الإسلام من الأزمة
عكس التوتر الفرنسي العالي من أنشطة الجماعات والجمعيات الإسلامية في البلاد وجود أزمة ليس لدى فرنسا العلمانية التي يفترض أنها تقبل بتعدد الهويات الثقافية والدينية، ولكن أيضا، وهو المهم أن الإسلام في فرنسا لم يتحول إلى مشروع وطني فرنسي، بمعنى أنه لم ينجح في التعايش مع الدولة العلمانية التي تسمح بالاختلاف في حدود احترام مقوماتها، مثلما تسمح دول إسلامية بالحرية الدينية للمسيحيين أو اليهود، أو أديان أخرى لدى العمالة الوافدة، في حدود اجتماع صلاة أسبوعي سري ومغلق، وبعض الدول سمحت ببناء دور عبادة وإن كانت محدودة العدد.
وإذا كانت بعض دولنا تطبق أحكام الشريعة على الوافدين وتفرض حظرا على حرياتهم الخاصة خوفا من “عدوى” تمس قيمنا وأخلاقنا وتقاليدنا القبلية، فكيف نطالب فرنسا بأن تفتح أبوابها واسعة أمام إمبراطورية الجمعيات والمنظمات الدعوية والخيرية دون أي مراقبة بزعم أن ذلك اختراق لقيم الحرية والعدالة والأخوة التي قامت عليها الثورة الفرنسية.
يجب أن نفصل بين الحق في العبادة وبين حرية الانتظام السياسي في صورة دعوية أو خيرية لأن ذلك ينتج ثقافة وتقاليد تتعارض مع قيم فرنسا ويستقوي بالتبرعات والهبات والنفوذ الخارجي لبناء مجتمعات مغلقة تعيش على المظلومية والرغبة في الانتقام والثأر من مجتمع احتضن الجالية الهاربة من الفقر والجوع والاستبداد.
لا يمكن تصويب أوضاع المسلمين في الغرب سوى عبر خلق هوية إسلامية محلية تؤمن بقيم الدولة المضيفة وتدافع عنها وتؤمن بالانتماء إليها فتتحول إلى دولة أصلية ودائمة
لم تمنع فرنسا ولا دول أوروبية أخرى بناء المساجد وإطلاق الأذان في مجتمع “كافر” ولا الدروس التربوية والدعوية التي تجذب المهاجرين إلى هويتهم على أمل أن تساعدهم على تخطي الغربة والإحساس بأزمة الانتماء، ولكن ماذا تفعل فرنسا أو ألمانيا أو بلجيكا إذا كانت تلك المساجد قد غزاها دعاة التطرف وصاروا يبثون من خلالها خطابا متطرفا ليس فقط من خلال الدعوة إلى الانكماش والعزلة ومقاطعة مجتمع كان له فضل احتضانهم وتوفير حياة كريمة لهم، ولكن تحول بعضها إلى فضاء يستقطب الشباب للتطرف ويهيّئ لهم سبل اللحاق بالجماعات والشبكات الإرهابية التي تنفذ عمليات بدائية كذاك الذي دهس العشرات بشاحنة في برلين أو ذاك المهاجر الشيشاني الذي قطع رقبة أستاذ يدافع عن قيم الحرية في بلاده، حتى وإن كانت طريقته مستفزة.
إن التشدد الإسلامي لن يفضي إلا إلى تشدد مضاد، والدليل أن العمليات الإرهابية التي نفذها متطرفون إسلاميون في أوروبا قد ساهمت بشكل كبير في صعود اليمين الأوروبي ومواقفه العنصرية ضد المهاجرين ومطالبته بطردهم وتوطين الأوروبيين في الوظائف التي يشغلونها.
ولم يكن استهداف المساجد والمصلين في عمليات استعراضية مثلما جرى في نيوزيلندا ليكون لولا العمليات الاستعراضية التي نفذها متطرفون مسلمون جاؤوا إلى أوروبا بحثا عن الرزق وفرارا بجلودهم من بلدان فقيرة وفاسدة فحوّلتهم ماكينة الجمعيات الإسلامية إلى إرهابيين من خلال شحنهم بسرعة ضد الآخرين واستثمار اليأس من الحصول على وثائق أو نظرة احتقار لدى مشغل أو عابر سبيل لتحويل هؤلاء إلى قنابل موقوتة تسيء إلى الإسلام قبل غيره بأن تحوله إلى دين محرض على العنف والقتل.
كان على الذين هاجموا الرئيس الفرنسي حين قال إن الإسلام يعيش أزمة في العالم ككل، أن يفهموا سر هذا الكلام لرئيس دولة يمثل المسلمون نواة سكانية صلبة داخلها. هل كان ماكرون ليقول هذا الكلام لو لم تكن هناك تفجيرات واغتيالات وفتاوى إسلامية تبيح قتل “العدو” بما في ذلك المسلم الذي يصلي ويصوم فقط لأنه في الضفة المقابلة لـ”الفرقة الناجية”.
وثقافة الفرقة الناجية موجودة لدى كل الحركات الإسلامية التي تعتقد أنها الأفضل والأمثل وغيرها على ضلال، فكيف أن بعض تلك الفرق الناجية القريبة، التي أمرت بسحل مسلمين وحرقهم وقتلهم أن تقنع الآخر الغربي بأن إسلامها دين تسامح واعتدال وعقلانية.
كيف يمكن أن يفهم المواطن الغربي تفجير البيوت واحتفال الناس بأعياد الفرح في بلدان آمنة مستقرة؟ هل سيقول إن الإسلام بريء أم إن الإسلام الذي يتبناه هؤلاء يكره الحياة ويمجد الموت. فأين توجد الأزمة في فرنسا التي فتحت المساجد ويسرت على الجالية أداء شعائرها في دولة علمانية يفترض أن تكون العبادة فيها أمرا فرديا خالصا، أم في التراث الفكري المتشدد الذي ما تزال تتبناه دول عربية وإسلامية وجماعات كبرى تقول إنها معتدلة فيما ميراثها الأدبي والتربوي والدعوي يحث على جهاد المختلف.
الأزمة هنا ليست سياسية، فلا يمكن تحميل المسؤولية لداعش أو القاعدة أو الإخوان أو الأزهر أو السعودية أو إيران، والنأي بالنفس عن إعادة قراءة مخزون إسلامي متراكم يقوم على نفي الآخر المختلف بما في ذلك داخل الفضاء الإسلامي.
إن داعش، كما القاعدة، سليلة تأويل فقهي إسلامي موغل في التشدد يقوم على التفاسير الحرفية والتأويلات المصلحية الخادمة للسلطة والدولة والجماعة، فمن يقدر على مقاربته ومراجعته في حركة فكرية فقهية جدية تضع خلفها حسابات السلطة والنفوذ..
مع ملاحظة مهمة، هنا، أن الفكر المتشدد الذي يتمدد في فرنسا انطلق من مساجد ترعاها وتنفق عليها دول شرق أوسطية كانت تعتقد أنه جزء من هويتها الوطنية ومدخل لبناء نفوذ وولاءات خارجية قبل أن تكتوي بحرائقه، لكنها، وإن كانت طوقته داخليا بالقبضة الأمنية والقانونية، لا تستطيع أن تتبرأ منه أو تسحبه وتعيد تشكيل صورتها كدول معتدلة.
يجب أن نفصل بين الحق في العبادة وبين حرية الانتظام السياسي في صورة دعوية أو خيرية لأن ذلك ينتج ثقافة وتقاليد تتعارض مع قيم فرنسا ويستقوي بالتبرعات والهبات والنفوذ الخارجي
وإذا كانت هذه الدول قد اكتشفت تهاوي نموذجها الديني الذي روجته لعقود، فيكف يمكن أن تساعد الغرب أو الشرق المتضرر على مواجهة التشدد؟ هل بالاستمرار في التبرؤ والنكران أم بخلق حوارات داخلية ودفع المؤسسة الدينية الماسكة بقبضتها الحديدية على التأويل والنصوص والشروح الفقهية إلى تسويق قراءة/ نموذج للمسلم في الغرب؛ حدود واجباته وحقوقه، وكيف يمكن بناء هوية وطنية للمسلم في فرنسا أو ألمانيا أو السويد أو بريطانيا التي تعامله كمواطن ويستمر بمعاملتها كملجأ مؤقت إما أن “يفتحه” ويحكمه، أو يغادره يوما ما.
إن المشكلة تقف عند هذا المفترق، إذ لا يمكن تصويب أوضاع المسلمين في الغرب سوى عبر خلق هوية إسلامية محلية تؤمن بقيم الدولة المضيفة وتدافع عنها وتؤمن بالانتماء إليها فتتحول إلى دولة أصلية ودائمة، وفي نفس الوقت تتمتع بحقها في العبادة كجزء من الحريات التي يتمتع بها الغربيون (حرية الرأي، والتدين..).
فهل يقدر المسلمون على مغادرة مربع الإسلام العابر للقارات والهويات وبناء ثقافة تؤمن بالهوية الوطنية التي يكون فيها الدين عاملا للانتماء لا هادما له؟
قد يكون الأمر صعبا بسبب ثقافة التمييز والعنصرية المستشرية في بعض البلدان، لكن توطين ثقافة الانتماء للدولة المضيفة سيكون مدخلا مهما لبناء الثقة مع الآخر المختلف الذي سيتطور مع الوقت سلوكا وثقافة في ظل قيم غربية تؤسس للمساواة.