علي الصراف يكتب:
رؤية أخرى للسلام
المنطقة لم تزرع إلا العداء المستحكم على الكراهية والعنف. لقد كانت مُجبرة على ذلك أيضا لأسباب وظروف شتى، هي كل تاريخ الصراع منذ نشأة إسرائيل إلى يومنا هذا.
وكلما نشأ عمل ينتسب إلى هذا التاريخ، كلما عاد العداء ليستحكم من جديد، فيطلق مواقف وشعارات ودعوات هي ذاتها التي ظلت تتكرر على امتداد أكثر من سبعين عاما. ولم نحصد من زرعها إلا المرارات، وأكثر منها الفشل.
والفشل لم يكن حصتنا الخالصة. الإسرائيليون أنفسهم يعانون من فشلهم الخاص، ومنها تمزقات الدين والسياسة والمجتمع، رغم كل ما يبدو أنهم حققوه من نجاح.
هناك حاجة إلى رؤية أخرى. هناك حاجة أهم إلى بناء استراتيجيات قائمة على قراءة متمعنة للواقع، وتكون قادرة على أن تحرث في أرض مختلفة، لزرع مختلف. وسواء كان ذلك يعني استمرار الأخذ بـ”حل الدولتين” أو “الدولة الديمقراطية الواحدة” أو أي حل آخر، فإن رؤية صلبة، ومتوافقة، هي الشيء الأول الذي يتعين البدء به.
الإقرار بحق إسرائيل في الوجود، أصبح أمرا لا جدال فيه. ليس لأن الفلسطينيين أقروه قبل غيرهم، بل لأن هناك عوامل أخرى يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار.
العامل الأول، هو أن إسرائيل من حيث التكوين السكاني، كائن حي، يتغير في داخله، ويتأثر بخارجه. المعنى الأهم لهذا العامل هو أن النظرة إلى إسرائيل كقالب جامد، سطحية للغاية. أنظر إلى طبيعة المجموعات السكانية التي تحمل الهوية الإسرائيلية وسترى مزيجا استثنائيا.
عدد سكان إسرائيل عام 2018 بلغ نحو 8.8 مليون نسمة وفقاً لتقرير للمكتب المركزي الإسرائيلي للإحصاء. اليهود الشرقيون، وهم من أصول عربية، يشكلون نحو 40 في المئة من مجموع السكان. ويشكل اليهود نسبة 74.5 في المئة من مجموع السكان، فيما يشكل العرب الفلسطينيون من المسيحيين والمسلمين 20.9 في المئة، بنحو 1.849 مليون عربي، أما النسبة الباقية والبالغة 4.6 في المئة فهم من المسيحيين غير العرب، وديانات أخرى، ومن غير المنتسبين إلى أي دين. ويصنف 44.3 في المئة من السكان الإسرائيليين أنفسهم بأنهم علمانيون، في حين 21.4 في المئة يعتبرون أنفسهم محافظين، و12.3 في المئة محافظون مع ميول دينية، و11.5 من المتدينين، 10.2 في المئة من اليهود المتطرفين.
وهناك ما يبرر القول، حسابيا على الأقل، بأن الأصول العربية لسكان إسرائيل هي الغالبة.
التمعن في هذا الواقع، الذي لم يُقرأ جيدا، بكل ما ينطوي عليه من تفاصيل إضافية مثيرة، تجعل بناء تصور على أساس “القالب” أمرا بعيدا عن الحكمة. ولا يمكن بالاستناد إليه بناء موقف سياسي أو استراتيجي سليم.
العامل الثاني، هو أن حالة العداء المستحكمة التي سيطرت على العلاقة بين هذا الكيان ومحيطه الجغرافي، لم تسمح لذلك التنوع أن يُظهر ميزاته، ولا تأثيره على الخيارات السياسية التي تتبناها الأحزاب الإسرائيلية.
أنظر أيضا في التفاوت والحركية الهائلة في طبيعة هذه الأحزاب ولسوف تكتشف أنها تعكس مقدارا كبيرا من الحركية داخل المجتمع الإسرائيلي نفسه. حيث يمكن لأحزاب كبرى أن تضمحل، بينما تنشأ أحزاب جديدة تحتل مواقع أكبر في الخارطة السياسية.
وحالة الحرب، إنما ظلت تدفع هذه الحركية في اتجاه واحد، هو مقابلة العداء الشمولي، بعداء شمولي آخر. والرغبة بالسحق والمحق، برغبة مضادة للسحق والمحق، بكل ما يعنيه ذلك، من سياسات تمييز وكراهية ظل معظم سكان إسرائيل يعانونها، من جانب المجموعة الأشكنازية الحاكمة.
أما العامل الثالث، فهو حقيقة أن إسرائيل رقم في معادلة دولية لا يمكن شطبها بقرار ولا بشعار. وبمعنى من المعاني فإنها رقم يحظى بحماية مطلقة من جانب الغالبية العظمى من دول العالم. وهي صخرة، باتت مناطحتها شيئا يوهن قرن الوعل.
وهناك عامل رابع، هو العالم نفسه، والمنطقة معه، وهي التي تشهد متغيرات اقتصادية وسكانية وسياسية واستراتيجية، أشبه بتسونامي حقيقي. وما لم يكن المرء قادرا على النظر إليها بإمعان، فإن خياراته حيالها سوف تصاب بالعمى، وغالبا ما تأتي عواقبها كارثية.
الشيء المهم في هذا التسونامي هو أنه يشمل إسرائيل أيضا. بمعنى أنه يصيبها بما يصيب غيرها، ويقلب معادلاتها مثلما يقلب معادلات الواقع الذي يعيشه الآخرون.
اخرج من القالب، وسترى إسرائيل بصورة مختلفة. وعندما يتاح للإسرائيليين أن يخرجوا من قالبهم المضاد، فلسوف يمكنهم رؤية الفلسطينيين والعرب والمسلمين بصورة مختلفة أيضا.
هذه الصورة، لا يمكنها أن تلغي الجوانب التي يتمسك بها العرب والمسلمون والفلسطينيون. هذا نزاع على حقوق ومقدسات يكاد لا يمكن المساس بخياراته ومعادلاته. وهو ما يتفهمه العالم، كما يجد بين الإسرائيليين من يتفهمه أيضا.
هناك اضطهاد، وأعمال تمييز، وجرائم ترتكب بحق الفلسطينيين، وأخرى ترتكب من جانب الطرف الآخر في نوع من رد الفعل. ولكنها دائرة عقيمة للغاية. وكل جزء منها يدخل في زاوية من زوايا قالب العداء والاستعداء المتواصل، والتحريض على الكراهية والنبذ.
لسنا وحدنا من يريد سلاما عادلا ودائما لكي نلتفت إلى ما يتوجب علينا الانشغال به من قضايا التسونامي. الإسرائيليون يواجهون الوضع نفسه.
ولئن وجد بيننا من يميز بين اليهودية والصهيونية، ليقر بأن اليهودية جزء من تاريخ المنطقة، وأنه لا عداء مع الدين، وإنما مع المشروع الصهيوني، فالحقيقة هي أن الصهيونية مشروع أيديولوجي كغيره من المشاريع الإيديولوجية الأخرى محكومة بالكسر ما لم تكن قادرة على التعديل أو التجاوب مع متغيرات الواقع.
إسرائيل كيان اجتماعي وسياسي هش. والهشاشة إنما تعني أنه ما يزال قيد التشكيل. وعلى هذا الأساس، فإن التأثير فيه أمر ممكن. كما أنها ليست قوة مخيفة أيضا. الخوف إنما هو خوفها الخاص. ولكن إذا لم تكن تريد للقالب أن يكون هو الحاكم، فيجب أن تكون قادرا على أن تفتح فيه أبوابا وشبابيك، لكي يدخل إليه هواء جديد.
بكل بساطة العبارة وعمقها، فإن خيار السلام الذي تبنته الإمارات، عاقل وحكيم، لأنه يقرأ معادلاته من خارج القالب. بل ويريد أن يدفع الإسرائيليين أنفسهم إلى الخروج من القالب الآخر الخاص بهم. ولو توفرت رؤية عربية في هذا الاتجاه، تجمع بين الحرص على السلام والدفاع عن الحقوق الوطنية المشروعة للفلسطينيين، والرغبة الصادقة بالعثور على حل قابل للحياة، فإن كل ما نتج عن ثقافة العيش في قالبين للكراهية والعنف سوف يتهشم.
لا شيء يبرر أي تفاؤل ساذج. ولكن السلام عندما يكون خيارا قائما على فكرة القبول بالآخر، والتعايش السلمي والأمن المشترك، فإن التسويات والتنازلات سوف تصبح ممكنة، لأنها تنطلق من معايير الوجود المشترك، لا الفصل بين متحاربين.
وهو ما قد يسمح بحل “من خارج الصندوق”، لا يشبه بالضرورة كل ما نعرفه من حلول.
ولكنْ، عندما تختار أن تكسر القالب، فيجب أن تكسره فعلا. الحلول سوف تأتي عندما تُمهد لها أرض تصلح لزرع جديد.