مختار الدبابي يكتب:
الشعبوية طريق ناعم لتفكيك الدولة
فتح هشام المشيشي، رئيس الحكومة التونسية، بابا كبيرا أمام الجهات الفقيرة كي تبحث عن أوراق الضغط اللازمة لإجبار الحكومة على تحقيق مطالبها في التنمية، وذلك بعد أن قبل بضغط مجموعة من الشبان أغلقوا آبار نفط في ولاية تطاوين بالجنوب.
وقال المشيشي إن الاتفاق المعتمد في الكامور (ولاية تطاوين) سيُعمّم على كافة الولايات، وجاء هذا الاتفاق بعد أشهر طويلة من الإغلاق الذي استهدف منع إنتاج ونقل النفط، ما أدى إلى خسائر كبيرة لتونس التي تعيش أوضاعا اقتصادية صعبة في ظل محدودية منتجها من النفط والغاز، وصرف جزء كبير من موازنتها على الدعم الذي يوجه في جانب منه على دعم المحروقات.
ويقوم هذا الاتفاق على إطلاق تعهدات حكومية بتوظيف المئات من الشباب الذي كان يمنع إنتاج النفط، في وظائف وشركات غير منتجة كانت حكومات سابقة قد كونتها في سياق شراء السلم الاجتماعي (شركات البيئة والبستنة والحضائر التي توزع رواتب على الآلاف من الشبان الذين يقومون بأعمال هامشية).
ومباشرة بعد إعلان رئيس الحكومة عن الاتفاق، والتباهي بقدرة حكومته على حل ملف معقد استمر منذ 2016، تحركت مجموعات شبابية في الولايات الفقيرة (القيروان، القصرين، قفصة، الكاف، سيدي بوزيد، سليانة) من أجل تنظيم اعتصامات وإضرابات وقطع الطرق بين الولايات والمدن، فضلا عن وقف تنقل حركة النفط باتجاه الموانئ، وقطع تزويد بعض المدن الكبرى بالمياه.
وكان قرار المشيشي بتقديم تنازلات والرضوخ لشروط معتصمي الكامور مسنودا بمواقف أغلب الأحزاب والكتل البرلمانية، والتي تساند أغلبها هذا الاعتصام لاعتبارات انتخابية وفي سياق المزايدة السياسية، دون أي قراءة لعواقب ذلك على الدولة ومستقبل العلاقة بين المناطق.
وظهر ممثلو اعتصام الكامور في شرائط فيديو يتحدون حكومات يوسف الشاهد وإلياس الفخفاخ وهشام المشيشي الذي أعلن منذ أسبوعين أن حكومته قد تضطر إلى فك الاعتصام بالقوة قبل أن يتراجع ويقبل بتحقيق مطالب تعجيزية سيكون مجبرا على تقديمها لمعتصمين في أماكن أخرى.
لم يكن المشيشي استثناء في الرضوخ لشروط المعتصمين، فمنذ 2011 ما تزال أغلب مواقع إنتاج الفوسفات مغلقة، ما كبد البلاد خسائر كبيرة وحولها من بلد رابع في إنتاج الفوسفات إلى بلد مستورد.
ومنذ أيام أشار جوهر بن مبارك، الذي فاوض مجموعات شبابية تغلق مواقع لإنتاج الفوسفات في ولاية قفصة زمن حكومة المشيشي، إلى وقوف نواب برلمانيين ونقابيين وراء هذه الإضرابات، وتحدث عن استفادة لوبيات فساد من هذا الإغلاق.
ويعود السبب الرئيسي لسكوت الحكومات المتعاقبة عن إجبار المعتصمين على فك الإضرابات وتمكين الدولة من عائدات منتجات حيوية مثل النفط والفوسفات إلى الشعبوية التي يعتمدها السياسيون بمختلف أحزابهم لكسب ود الشارع بقطع النظر عن مخاطر ذلك على الدولة وتعميق الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي يفترض أن السياسيين الجدد يبحثون لها عن حلول.
لم يخرج السياسيون الجدد إلى الآن عن منطق المعارضة الراديكالية التي تقف مهمتها عند الانتقاد وإطلاق البيانات الثورية الهادفة إلى كسب الأنصار، ولذلك حين حكمت أغلبها (إسلاميون ويمين ووسط اجتماعي) كان هدفها الأول توظيف إمكانيات الدولة المحدودة لإرضاء الشارع عبر المصادقة على اتفاقيات وتعهدات لا تتحملها إمكانيات البلاد، وخاصة إغراق المؤسسات بالانتدابات العشوائية.
ولم يغادر هؤلاء مربع الرؤية اليسارية التقليدية التي تنظر إلى الدولة على أنها دجاجة تبيض الذهب، وأنها مطالبة بالتوظيف وتوفير الرفاه لكل الناس، وهي عقلية مستمدة من تجربة الدولة الوطنية في مرحلتها الأولى، حيث أظهر الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة حرصا خاصة على توظيف كل خريجي الجامعات ومنح الموظفين في كل القطاعات رواتب جيدة وعلاوات ومزايا بينها كوبونات البنزين والسيارات الإدارية ومنح التنقل خارج أماكن العمل.
وهذه الرؤية المثالية للدولة ما تزال تتحكم في أداء حكومات ما بعد الثورة، ووقع رؤساء تلك الحكومات ووزراؤها اتفاقيات كثيرة لا تتماشى مع قدرات الدولة تحت ضغط الإضرابات، ليس فقط من خلال انتداب الآلاف، ولكن الأخطر هو توقيع زيادات كبرى في الرواتب والمنح وتمكين قطاعات مثل المالية من فرص الحصول على نسب من عائدات الدولة التي تحصلها الوزارات.
وساعدت التنازلات التي قدمتها الحكومات المختلفة، في سياق الصراع السياسي، على تنافس بين القطاعات بهدف الضغط على الحكومة للحصول على امتيازات تضاهي ما حصلت عليه قطاعات أخرى. والنتيجة أن الدولة باتت رهينة لصراع القطاعات، خاصة في قطاع حكومي غير منتج، وأغلب الشركات التي تعود ملكيتها للدولة تعيش حالة كبيرة من الفساد وهدر المال العام، وترفض أي تدخل حكومي لإصلاحها. وبالمقابل تستمر في الضغط على الحكومة لتنفيذ زيادات في الرواتب والمنح وضخ أموال كثيرة لإنقاذ تلك الشركات (الخطوط التونسية، سكك الحديد والقطارات، شركة نقل تونس، شركات نفطية..).
وأغلب هذه التحركات تحتمي باتحاد الشغل، الذي بات بعد الثورة لاعبا سياسيا، وساهم في صعود المطلبية القطاعية، فضلا عن تغذية الاعتصامات ذات البعد المناطقي، وهو كما الطبقة السياسية، يبحث عن عائدات سياسية لمواقفه بقطع النظر عن نتائج تلك السياسات في بلد يدار بعقلية الدول الاشتراكية في ستينات وسبعينات القرن الماضي، حيث يهيمن الفساد والبيروقراطية على القطاع العام.
لكن الأخطر في هذا المشهد هو أن الجميع يشتغل على تغذية فكرة الصراع بين القطاعات والمناطق ويتم توظيف الأوراق الممكنة في مسار هذه الشعبوية بما في ذلك ورقة البعد العشائري (العروشية)، وهو ما قد يقود البلاد إلى ثقافة ما قبل الدولة الوطنية، وهي الأرضية المثلى لتفكيك الدولة.
وقد تم الاشتغال قبل ذلك، وعلى نطاق واسع، على تفكيك أدوات القوة الناعمة لهذه الدولة مثل الالتفاف على رؤيتها في الإصلاح الاجتماعي (استهداف مدونة الأسرة) والتشكيك في مؤسسات القضاء والجيش والشرطة ومحاولات اختراقها وجرها إلى مربع الصراع السياسي.
ويلعب الإعلام دورا مساعدا في مسار التفكيك خاصة بعد أن خرج من بعده المحافظ إلى حالة من فوضى البرامج والمشاريع المتناقضة وبات ساحة لمشاريع التفتيت من خلال اللعب على قضايا الجهويات في مجالات مثل الصحة والرياضة. لكن الأخطر أن برامج التفتيت تجد ملعبها المثالي في مواقع التواصل الاجتماعي التي باتت تشكل خطرا حقيقيا على مستقبل الدولة بسبب هيمنة خطاب المظلومية والاستهداف الجهوي (الحقرة).