علي الصراف يكتب:
الجرأة على الدمار وما بعده
دمرت الحكومة السورية البلاد، وتريد من العالم أن يدفع لها الأموال لكي تعيد البناء.
الرئيس بشار الأسد، الذي قاد حملة التدمير والتهجير حتى انتهت إلى تشريد أكثر من 12 مليون سوري داخل وخارج البلاد، ظل يمتلك الجرأة، لا تعرف كيف، على مهاجمة الدول التي تستضيف اللاجئين السوريين، لأنها لا تدفع له، لقاء ما قام هو به.
لقد كانت الأعمال المنهجية تتم وفقا لسياسة “الأرض المحروقة”. وكانت هي خياره الوحيد للتغلب على التمرد الشعبي، الذي اندلع في العام 2011. وعلى مدى 9 سنوات من بعدها، ظلت طائراته ودباباته تهدم وتهدم حتى تحولت مشاهد الخراب إلى متحف قائم بذاته للوحشية العمياء؛ متحف من الخير أن يبقى كما هو لسببين اثنين على الأقل.
الأول، إن ما تهدم كان من العمق بحيث لم يعد مفيدا إصلاحه. وأصبح بناء مدن جديدة على أرض بكر، أكثر جدوى من الناحية الاقتصادية.
والثاني، لكي يبقى الخراب شاهدا على وحشية نظام أعمى، بلا حس، وبلا ضمير.
ولكي يمارس وحشيته تلك، بحقد وقناعة مسبقين، فقد كان نظام الأسد هو الذي حول التمرد الشعبي إلى تمرد مسلح. أولا بإطلاق سراح الإرهابيين والمتطرفين من السجون، وثانيا بتزويدهم بالسلاح.
أطنان من الأسلحة تم تسليمها في بعض الأحيان “تسليم يد بيد” لكي يتم استخدامها كذريعة لتحريك كل آلة التدمير التي امتلكها الجيش السوري. وهذا ما حصل.
لم يكن القمع المألوف ليبدو كافيا بالنسبة لنظام أشبع شعبه قمعا على امتداد نصف قرن.
لقد كان يجب، لمواجهة ما تجرأ الشعب عليه، أن يُواجه هذا الشعب بالعقاب الأقصى: الدمار الشامل، والتشريد الشامل.
كان بشار الأسد ورفقته، يدرك، بقناعة راسخة، أنه لا يملك خيارا آخر. ليس لأن السوريين وحوش، وليس لأنهم لم ينسوا عذابات عقود من القمع العميق، بل لأنه لا يريد أن يترك لهم شبرا من الحرية، ولا أن يعطيهم شبرا من الشراكة في سلطته المطلقة، كما لا يريد رقيبا على فساد نظامه، ولا من يجرؤ على المساءلة، أو الدفع إلى احترام القانون، حتى ولو صاغه بنفسه.
ولقد كان السوريون مستعدين لبقاء نظامه أيضا، مقابل تعديل بسيط، لا يُميت الذئب ولا يُفني الغنم، كما كانوا مستعدين لشطب ماضي الجريمة كله، مقابل فسحة صغيرة من العمل المشترك لإعادة بناء الحياة السياسية. إلا أنه لم يشأ أن يسمح بتلك الفسحة، ولا بذلك الشبر. سلطة مطلقة، كانت تعني في النهاية خيارا بين اثنين: إما خنوعا مطلقا، أو دمارا مطلقا. وهذا ما حصل.
صاحب نظرية “سوريا المفيدة”، يريد الآن إعمار سوريا “غير المفيدة” بأموال دول يعتبرها “داعمة للإرهاب ضد سوريا”.
هل يمكن لأي أحد أن يعثر على منطق خلف هذه الفوضى الذهنية؟
ويحسب الأسد أن العالم نسي كل ما وقع؛ نسي مشاهد القتل والدمار رغم أنها ما تزال قائمة، نسي عذابات الملايين، رغم أنها ما تزال تصرخ، حتى ليجرؤ على مطالبة دول العالم بأن تدفع له مكافأة على ما فعل.
يمكن للمرء أن يكون جريئا، ولكن هل كان يمكن حتى للجن الأزرق أن يتخيل وقاحة تصل إلى هذا الحد؟
اللاجئون السوريون، بحسب بشار الأسد، يريدون العودة إلى بلدهم، إلا أنهم “يتعرضون لضغوط تمنعهم من العودة”.
كل الدول الأوروبية تنشر إعلانات في مراكز الهجرة لتمويل عودة كل من يرغب، وتعرض عليهم المال لإغرائهم بالعودة. إلا أن الرئيس الأسد قال في افتتاح مؤتمره “الدولي” لعودة اللاجئين السوريين في دمشق، “إن دول الاستقبال تستغلهم أبشع استغلال، وتحول قضيتهم من قضية إنسانية إلى ورقة مساومة سياسية”.
أما الاستغلال، فهو أن اللاجئين السوريين الذين غامروا بحياتهم في قوارب متداعية للوصول إلى البر الأوروبي، يعيشون في منازل لا تقصفها طائرات. ولعل هذا هو الشيء البشع من وجهة نظره. إذ هل يُعقل أن يسكن اللاجئون السوريون في منازل آمنة؟ هل يعقل أن يكتشفوا سبلا للعيش بكرامة؟ هل يُعقل أن يتلقوا مساعدات إذا كانوا عاطلين عن العمل؟ وأن يذهب أطفالهم إلى المدارس، وألا تلاحقهم مخابرات، وأن يحصلوا على تأمين صحي وخدمات متساوية مع بقية خلق الله، وأن لا يدفعوا رشاوى لموظفين في الدولة؟
شيء بشع، حقا. فالسوريون الذين لم يُخلقوا إلا لنظام كنظامه، لا يستحقون أن يُعاملوا كبشر من الأساس. لقد خُلقوا كغنيمة.
السؤال ليس هو ما إذا كان اللاجئون يريدون العودة، بل كم يبقى من السوريين تحت سلطته لو فتحت أمامهم طرق الهجرة؟ ولولا المشاق المصطنعة التي صارت تضعها الدول الأوروبية في مخيمات اللاجئين الجدد للحد من موجات الهجرة، لكان الشعب السوري كله ذهب إلى أوروبا لكي يتم “استغلاله أبشع استغلال”، ولا أن يعيش في حارة محترفي أعمال التعذيب ومغتصبي النساء ممن يقودهم.
أما “القضية الإنسانية التي تحولت إلى ورقة مساومة”، فهي أن الدول الأوروبية تطالب بتوفر ضمانات لأمن اللاجئين، لاسيما وأن السلطات السورية ما تزال تعتبرهم خونة وعملاء وإرهابيين. وهذه أوصاف تجعل أحكام الإعدام هي الحد الأدنى للعقوبات التي تنتظرهم. أما الحد الأقصى، فقد سجلته صور قيصر لما كان يحصل في سجون الأسد.
ولقد ندد الأسد في خطابه أمام المؤتمر بالعقوبات “غير الشرعية” التي تفرضها الولايات المتحدة وحلفاؤها على نظامه. أما لماذا تم فرض هذه العقوبات، فذلك شأن لا يجب ذكره.
الأعمال الوحشية التي كشفت عنها صور قيصر، كانت هي السبب، ولكن لم تتوفر لطبيب العيون، عينا لتراها.
لقد كانت تلك الجرائم، بحسب المنطق السائد في دمشق، عادة من العادات التي ألف السوريون العيش فيها. فلماذا يجب أن تتحول إلى قضية؟
أما الدمار، فتقدر تكاليف إعادة إعماره بنحو 400 مليار دولار. وبينما تريد دمشق أن تحصل على المال على سبيل التعاطف مع ما فعلت، فإن مؤسسات التمويل الدولية تريد ضمانات بألا تعود الطائرات لتلقي براميل متفجرة على رؤوس الناس.
روسيا تعهدت بتقديم مليار دولار لإصلاح شبكات وخطوط الكهرباء. وعلى رغم ضآلة المبلغ، أو هزاله وفقره، فالحقيقة هي أن هذا الجانب “مربح” من ناحية الاستثمار. وبقي أن تتوفر 399 مليار دولار أخرى، ويفترض أن تأتي من الدول التي “تستغل اللاجئين”، بحسب التصور الذي يصدر عنه بشار الأسد.
وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف الذي أُلقيت عنه كلمة بالنيابة، قال إن هذه الدول تمارس أساليب “غير بناءة وغير إنسانية”.
الأوروبيون يتساءلون: في ماذا؟ في القصف العنيف؟ أم في الأرض المحروقة؟ أم في الأسلحة الكيمياوية؟ أم في صور قيصر؟
لافروف طالب أيضا بعدم “تسييس” قضية اللاجئين، لأنه يعتقد أن هذه القضية نشأت عن حادث سير، لا صلة له بالسياسة.
وحيثما “يكاد المريب يقول خذوني” فقد اعتبر أن الدول التي رفضت المشاركة في المؤتمر تريد أن تجعل سوريا “رهينة للمصالح الأنانية الجيوسياسية”.
فهل كان لافروف يقف أمام المرآة عندما كتب خطابه عن بلد تحول إلى رهينة لمصالح بلاده هو؟
الوقاحة أشكال. بعضها زائد عن الحد، ولكن من عاشر بشار الأسد كل هذه المدة، ورافق أعمال نظامه، يستطيع أن يتخيل أنها شيء طبيعي.