تاج الدين عبد الحق يكتب:

عصي ترامب وعجلة بايدن

الحماسة التي أبداها البعض، لفوز جو بايدن بانتخابات الرئاسة الأمريكية، توحي بأن ثمة من يأمل بتغيير انقلابي في السياسة الأمريكية، يمحو كل ما فعلته إدارة الرئيس المنتهة ولايته، ويعيد عقارب الساعة إلى الوراء، وكأن الزمن لم يتغير، والوقائع لم تتبدل، أو أن ما حدث خلال السنوات الأربع التي قضاها دونالد ترامب في البيت الأبيض لم تحفر متغيرات واضحة على السياسة الأمريكية تجاه الكثير من القضايا الخلافية، أو تجاه علاقات واشنطن الدولية.

الذين تنفسوا الصعداء وهم يتابعون نتائج الانتخابات، تعاملوا مع هذه النتائج وكأنهم يكسبون رهانا شخصيا، وهم على أساس نشوة كسب الرهان، تجاهلوا بكثير من الخفة العديد من الحقائق التي تحكم السياسة الأمريكية خاصة على الصعيد الخارجي، لتصبح توقعاتهم أقرب للرجم بالغيب، ونوعا من التعبير عن الأماني أكثر من كونها قراءة للواقع.

وباستعراض نقاط التماس في علاقات واشنطن الخارجية، سنجد أن التغيير المنتظر فيما يتعلق بتلك النقاط سيكون هامشيا أو محدودا.

فمع افتراض أن إدارة بايدن ستكون مطلقة الصلاحية، في تغيير وتعديل ما طرأ على السياسة الأمريكية خلال حكم ترامب، فالواضح إلى الآن أن الرئيس المنتخب هو كتاب مفتوح، قرأه كل من تابع مسيرته السياسة وهو يتدرج في أروقة وكواليس الإدارة الأمريكية بشقيها التشريعي والتنفيذي.

ومسيرة ممتدة على ما يقرب من نصف قرن كفيلة بتقدير ما إذا كانت شخصية بايدن من الشخصيات التي يمكن أن ننتظر منها مفاجآت، أو تقوم بتغييرات تتجاوز ما هو معروف عنها، وما هو متوقع منها.  وإذا أضفنا إلى ذلك ضآلة احتمال أن يحظى بولاية رئاسية ثانية وهو في هزيع عمره الأخير، فإن أقصى ما يمكن أن يفعله خلال هذه المدة القصيرة التي سيقضيها في البيت الأبيض هو محاولة احتواء الآثار الاقتصادية والاجتماعية  العميقة، لجائحة كورونا التي أثقلت الاقتصاد الأمريكي، وهددت تماسك تركيبة الحياة الاجتماعية.

لكن باستعراض بعض ملفات السياسة الخارجية الأمريكية في ظل هذه الظروف الداخلية الضاغطة التي يتسلم فيها بايدن الرئاسة، فإن ما يمكن أن ينتظره البعض من تعديلات على سياسة الرئيس المنتهية ولايته على هذا الصعيد، يظل محكوما بثوابت السياسة الأمريكية من جهة، وآليات التغيير، وأولوياته من جهة ثانية.

فمع أن العديد من القرارات التي اتخذها ترامب خلال رئاسته، كانت تأخذ طابعا استعراضيا ومفاجئا، إلا أنها تحولت ،بحكم الواقع، إلى تشريعات وقوانين يحتاج تعديلها أو تغييرها إلى الكثير من الإجراءات والحسابات الداخلية، التي يصعب معها انتظار نتائج سريعة، وخطوات واضحة.

والقضايا الملحة التي غيرت ملامح السياسة الخارجية خلال حقبة ترامب، والتي أصبحت الآن في عهدة بايدن، هي العلاقات مع إيران بما في ذلك العودة للاتفاق النووي الذي ألغاه ترامب بجرة قلم، أو التفاوض على شروط العودة إليه أو على تعديله وتنقيحه حذفا وإضافة، ثم الأوضاع والتطورات المتصلة بالقضية الفلسطينية بما في ذلك قرارات الاعتراف بالقدس المحتلة عاصمة لإسرائيل، ونقل السفارة إليها والاعتراف بضم الجولان السوري المحتل، وغيرها من القضايا الإقليمية المتصلة بهذين الملفين، وأخيرا العلاقات مع الصين في ضوء التصعيد الحاصل في خلافات واشنطن وبكين حول العديد من القضايا الاقتصادية والتجارية، والتي وضعت البلدين أمام توترات سياسية ذات أبعاد إستراتيجية خطيرة.

وأيا كانت الأولويات والاعتبارات في التعاطي مع الملفات الثلاثة المشار إليها، فإنها ولا شك تحتاج إلى وقت ثمين لا تملكه الإدارة الأمريكية الجديدة إن هي أرادت مراجعة أي منها.

فالديمقراطيون وإن كانوا يتحملون التزاما أدبيا تجاه الاتفاق النووي مع إيران لا يمكن أن يقدِموا على تنازل أتوماتيكي لإيران لمجرد الرغبة في إثبات الذات أو الانتقام من خصمهم السياسي. فإلغاء ترامب للاتفاق كانت له نتائج على الأرض لا يمكن لبايدن أن يغفلها عند مراجعة العلاقة مع إيران، لضمان تحجيم الطموحات الإقليمية الإيرانية.

أما فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، فمن غير المتوقع أن يتراجع بايدن عن قرار نقل السفارة الأمريكية للقدس المحتلة، خاصة وأن الديمقراطيين أنفسهم، كانوا موافقين عليه من حيث المبدأ وإن هم تريثوا في تنفيذه خلال الدورات المتوالية لهم في البيت الأبيض والكونغرس.

أقصى ما يمكن أن يفعله بايدن هو إعادة المساعدات للسلطة الفلسطينية وتسخين قنوات الاتصال معها، وتقديم مساهمات لدعم برامج الأونروا، ومثل هذه الخطوات قد تسهم في تشجيع الفلسطينيين على استئناف المفاوضات وهو الهدف الذي سعى ترامب لتحقيقه من خلال الضغط، ليحاول بايدن -هذه المرة – تحقيقه من خلال الإغراء.

آخر الملفات الضاغطة، هو ملف العلاقة مع الصين المعقد والمثقل بالتفاصيل والشكوك. ولا شك أن الأولوية ستكون له في الفترة الأولى من حكم بايدن؛ نظرا لأنه يرتبط بشكل أو بآخر بالأوضاع الداخلية الأمريكية من جانب، وبالعلاقات الدولية في الوقت ذاته. وسيكون من شأن حدوث أي انفراج على هذا الصعيد، تحقيق انفراجات عديدة على أكثر من صعيد.

الخلاصة التي ننتهي إليها عند استعراض الملفات الثلاثة، وتلك المرتبطة بها عموما، تظهر أن الفوز التاريخي لبايدن لا ينفي حقيقة أن ترامب وضع خلال رئاسته في البيت الأبيض العديد من العصي التي ستعيق تقدم عربة الرئيس المنتخب، والتي ستظل تتحرك ببطء لوقت طويل، دون أن تنجح في الوصول إلى أي محطة جديدة، من محطات السياسة المقبلة للبيت الأبيض.