علي الصراف يكتب:
لماذا يجب على الرئيس عباس أن يُزاح أو يستقيل؟
لم تكن استقالة أو إزاحة الرئيس محمود عباس مطلوبة من قبل، مثلما هي مطلوبة اليوم. الفوضى الذهنية التي يعانيها أبومازن، ليست هي أقل الأضرار من “سياساته”. إنه بلا سياسات أصلا.
قل ما تشاء في مديح تاريخه وماضيه. إلا أن الرئاسة ليست “طابو”. السلطة ليست ملكية خاصة. إنها ملكية عامة. ولا يحق لأي أحد أن يتصرف بها وكأنها سلطة مطلقة خارج حدود المساءلة والتدقيق. في النهاية، هناك حساب يتعين أن يتم جرده ليعرف الناس ماذا كسبوا وماذا خسروا من تلك السلطة.
لقد فشل أبومازن في إدارة سلطته منذ ما لا يقل عن عشر سنوات. ولم يعد قادرا على صياغة توجهات ملموسة تمضي بالقضية الفلسطينية إلى الأمام. إنه يمضي بها إلى الخلف. لا الداخل الفلسطيني سعيد بما يفعل ولا الخارج. وكمن يحطم صحون مطبخه بنفسه، للتنفيس عن الغضب، فقد حطم الرئيس عباس صحون علاقاته بمعظم الدول العربية، وليس فقط التي اختارت عقد اتفاقات سلام مع إسرائيل. وفشل في أن يحافظ على الإجماع العربي حول قضيته، وصار يتولى بنفسه التصديع فيه.
منذ أن تعطلت المفاوضات مع إسرائيل، لم يكشف الرئيس عباس عن إستراتيجية بديلة. لم يضع رهانه على شيء آخر. لم يعقد جلسات عمل وتفكير مع كبار الشخصيات الفلسطينية ممن يحب أن يصغي لهم وممن لا يحب، لصياغة خيارات وبدائل. لقد بات لا يصغي لأحد أصلا، إلا لصدى لنفسه. وهذه كارثة.
الفلسطينيون ليسوا عاجزين عن الدفاع عن أرضهم ومصائرهم. عباس هو العاجز. إنه أكبر العاجزين. لأنه قيّد نفسه بأقوال والتزامات أمنية مع إسرائيل جعلته لا يستطيع تحريك شعره في مواجهة إسرائيل. وكلما مضى المزيد من الوقت، كلما زاد الموات في قدرة الفلسطينيين على التصدي لسياسات إسرائيل القمعية أو لسياسات التوسع والضم التي أكلت أحلام الدولة الفلسطينية، جغرافيا على الأقل.
إنه لمن المخزي أن يكون آخر تحرك شعبي للاحتجاج على سياسات إسرائيل قد حدث قبل خمس سنوات، بعدما قام مستوطنون إسرائيليون بحرق منزل عائلة الدوابشة في 31 يوليو 2015. حتى هذا التحرك كان مجرد فوضى انتقام وانتقام مضاد. لا السلطة الفلسطينية كانت قادرة على ضبطه ولا عقلنته، ولا حتى الاعتراف به، بل إنها وقفت ضده، وتحولت إلى شرطي إسرائيلي يفتش حقائب الأطفال بحثا عن سكاكين.
السبب الرئيسي للفوضى هو أن السلطة الفلسطينية لم تكن من الكفاية السياسية ولا الفكرية، بحيث تقدم لشعبها مسارات مقاومة عاقلة أو مدروسة. تركت السلطة شعبها للفوضى، لكي يحصد من بعدها عواقب أشد هولا من الأضرار. الفرق بين الحجارة والسكاكين، كان فرق انحدار في الخيارات، حوّل “المقاومة” من احتجاج شعبي ضد الاحتلال إلى أعمال انتقام فردية تنم عن يأس شديد.
في ذلك الوقت بالذات، كان على الرئيس عباس أن يستقيل. لأنه لم يعد قائدا لشعبه، ولا كان قادرا على أن يرسم خارطة طريق تضع قضية شعبه خارج المأزق.
جلس لينتظر عطف إسرائيل عليه، لتعود إلى التفاوض، أو لتوقف عمليات الاستيطان، أو لتحد من أعمال القتل اليومية التي يتعرض لها مواطنوه. ولم يحصل شيء من ذلك. وعاما بعد عام، ظلت السلطة الفلسطينية تكرر عجزها وتضيف إليه، حتى انتهت إلى خيال مآتة حقيقي.
الانقسام الفلسطيني هو نفسه، كان واحدا من أوجه العجز عن صياغة إستراتيجية يجمع عليها الفلسطينيون.
لا تتوفر ضمانات بأن “إستراتيجية وطنية موحّدة” كانت ستأخذ بالضرورة الطريق الصحيح، لأن الشعاراتية الفارغة، ظلت هي السلطة الموازية في التفكير العام. والانقسام حصل ليس لأن سلطة الرئيس عباس عجزت عن أن تكون سلطة جامعة فحسب، بل لأن خياراتها وخيارات الطرف الآخر لم تكن موضوعا لنقاش وطني مفتوح، ولأن قيم الديمقراطية لم تكن لتُؤخذ بعين الاعتبار، بحيث يعود الخيار النهائي للشعب الفلسطيني نفسه، ولتكون هناك حكومة تعبر عن إرادته، كائنا ما كانت النتيجة.
شعب لا يجد في سلطته قائدا، ولا يجدها تعبر عن إرادته، كان من الطبيعي أن يتحوّل إلى أفراد تمزقهم النقمة، وينهشهم اليأس.
ويتشبث الرئيس عباس بسلطته، كمن يتشبث بالفراغ. وهو يرى قاربه يغرق، إلا أنه ما يزال يخادع نفسه بالقدرة على البقاء، رغما عن أنف كل ما حققه من فشل.
الثقة والأمل، سلاحان يغيبان الآن كليا عن مشاعر الفلسطينيين. ولهذا السبب تنحدر قدرتهم على “الصمود” و”المقاومة”. وهذا انتحار جماعي، يقوده الرئيس عباس وشلة الذين يحيطون به.
وينكر الرئيس عباس أن هناك فسادا في سلطته. الفلسطينيون يعرفون أنه إما يكذب وإما لا يرى. وهذا مؤذ في الحالتين.
استقالة حنان عشراوي، وهي من دائرته الضيقة، قالت إن التصدع بلغ مستوى لم تبلغه “القيادة الفلسطينية” في أحلك الأوقات وأصعب الظروف.
إنه غضوب أيضا. والغضب هو نفسه دليل على العجز. فالمرء يغضب، ليس لأن الرياح تجري بما لا يشتهيه، بل لأنه لا يعرف ماذا يفعل حيال ما يتغير من الوقائع من حوله، ولم يخطط لملاقاته بإدراك مسبق، ولم يستشرف شيئا، ولا عرف كيف يستثمر في التغيير. ومثلما جعل الرئيس عباس سلطته، تقف جامدة خارج الزمن، فإنه كان يريد لكل شيء أن يتوقف أيضا. بانتظار ماذا؟ لا أحد يعرف.
وبدلا من أن يوسع دائرة التواصل والتنسيق مع الدول العربية التي اختارت عقد اتفاقات سلام مع إسرائيل، لكسب دعمها وتضامنها، فقد وجد نفسه يخوض حربا مع الطواحين. فأرغى وأزبد، ثم عاد وأخزى نفسه بالتراجع عما قال وما فعل، ليقدم دليلا حيا على أن الفوضى الذهنية صارت هي التي تتحكم به، ويعجز عن التحكم بانفعالاته. وهذا كثير.
أخيرا ذهب إلى الدوحة، من أجل أن يناكف، كما تناكف. وهذا شأن جعل من تلك الفوضى سخفا بلا وازع.
الفلسطينيون ليسوا شعبا عاقرا. ولا هو شعب خراف. ولا هو راغب بالانتحار. ولسوف يعثر على طريق. والطغاة الذين يتحكمون به، لن ينجوا من العقاب إذا ما تنكروا لحقه في التغيير.
لقد رأى الفلسطينيون، على مرّ تاريخهم، الكثير من المآسي، ولكن قضيتهم لم تكن في أي يوم من الأيام، محكومة بالتمزق والفوضى واليأس مثلما هي اليوم. والرئيس عباس مسؤول عن قسط جسيم في ما انتهوا إليه.