إبراهيم غرايبة يكتب:

ما مصير المؤسسات الدينية مستقبلاً؟

هل ستبقى المؤسسة الدينية؛ الرسمية والاجتماعية، مستمرة في وجودها وعملها كما تعمل اليوم؟

لقد استمدت المؤسسة الدينية وجودها ثم تحولت إلى سلطة سياسية واجتماعية ومعرفية، في ظلّ بيئة سياسية واجتماعية واقتصادية لم تعدّ قائمة، أو هي في طريقها إلى الزوال، ومن ثمّ فإنّ المؤسسة الدينية، بما هي وزارات ومؤسسات إرشادية وتعليمية وقضائية ومناهج ومحتوى، أو بما هي جماعات مستقلة عن السلطة السياسية، وإن كانت تدور في فلكها أو تعمل بموافقتها وعلمها، أو بما هي معارضة للسلطات السياسية والدينية، أو احتجاجية تقود الغاضبين والمهمشين والكارهين والمتطرفين؛ تواجه احتمالات الفناء أو إعادة التشكيل على أسس وقواعد وأفكار مختلفة عما عرفته الأمم على مدى القرون الماضية.

في عجز الإنسان عن إدراك الحقيقة الدينية تقدّمت المؤسسات الدينية والسياسية باقتراحاتها

ما سبق يعود لأسباب ومعطيات صارت واضحة؛ بل وبدأت تعمل بالفعل متحدية السلطات والجماعات، وكل أوعية التنظيم الديني والاجتماعي والأخلاقي، ففي ظلّ الشبكية السائدة اليوم صعدت الفردية على نحو كاسح يتحدى المؤسسات الدينية والسياسية والاجتماعية، ويغير في معناها ودورها وعلاقتها بالمجتمع والمواطنين!

تشكلت السلطة/ المؤسسة الدينية، على أساس أنّها تقدم الحقيقة الدينية؛ فالمتدين يمارس الدين لأجل توقعات يعيها مسبقاً، لكن الدين لا يخبرك عن توقعاتك، إنما يمنحك إياها، يجب أن تكون لديك توقعات تعيها أو تعيشها بما هي أشواق روحية أو مخاوف أو مطالب، والحال أنّ الدين في ممارسته الطقسية والشعائرية، وفي الشعور به، هو وعي المتدين بما يحب أن يكون وما يجب أن يكون، لكن وفي عجز الإنسان عن إدراك الحقيقة الدينية، سواء بسبب نقص المعرفة، أو بما هي غامضة لا يمكن إدراكها، أو بسبب الفشل الاجتماعي والحضاري والعجز عن التقدم الإنساني والمادي، تقدّمت المؤسسات الدينية والسياسية باقتراحاتها، والحال أنّ ما لدينا مما نظنّه "حقائق دينية" عدا النص الديني المؤسس الذي يعرفه جميع المتدينين بلا حاجة إلى أحد من الناس، ليست سوى اقتراحات السلطة الدينية، وبعبارة أخرى: ليست سوى ما تتوقعه السلطة من المتدينين، وليست سوى أفكار وأهواء، ومصالح، وتجارب، وأهداف السلطة.

الناس جميعاً اليوم يعرفون ما هو من عند الله وما ليس من عند الله ولا يحتاجون لأحد يخبرهم

لكن الناس جميعاً، اليوم، يعرفون ما هو من عند الله، وما ليس من عند الله، ولا يحتاجون إلى أحد ليخبرهم عنه، وسواء كانت اقتراحات السلطة الدينية والسياسية أو الجماعات صواباً أو خطأ، مفيدة أو ضارة، خيراً أو شراً، فإنّها لم تعد تفيد المؤمن في شيء، أو لم يعد يحتاج إليها، وحتى عندما يحتاج فإنّ لديه خيارات بلا حدود، ولا حواجز، ولا تكاليف، ليعرف ما يريده، وما يحتاج إليه.

ليس لدى أحد أي شيء يقدمه للمؤمنين اليوم، سوى "الثقة"، فمن يثق به الناس يلجؤون إليه، هكذا فإنّ المؤسسة والسلطة الدينية لم تعد اليوم سوى "الثقة"، وهذه الثقة لا تفرض على الناس إلا فيما تبقى لدى السلطة من مدارس ومؤسسات تنظيمية وقانونية وإدارية، يلجأ إليها الناس ليس ثقة بها لكن خضوعاً للسلطة، وفي اللحظة التي تفقد السلطة قدرتها أو رغبتها في إدارة وتنظيم هذه الخدمات الدينية، لن يلجأ إليها إلّا من يثق بها أو يريدها بالفعل راضياً مختاراً، لكن المرجح، إن لم يكن مؤكداً، أنّ الفرد في قدرته على إدارة توقعاته ومطالبه الدينية لن يحتاج إلى مؤسسات تعليمية وإرشادية وسلطوية، وفي ظلّ انتفاء الحاجة إلى هذه المؤسسات والسلطات فإنها لن تظل قائمة. أو أنّها سوف تتغير تغيراً جذرياً وكبيراً.

لا يكوّن فهم الدين وتطبيقه ديناً إلا في مجاله الفردي، بما هو معارف واعتقادات وممارسات فردية مستقلة، بلا وساطة من أحد، أو حاجة إلى أحد، فكل مؤمن ينشئ فرداً صراطه المستقيم، وأما تطبيق الدين أو تأثيره في فضاءات جماعية ومنظمة، فليس سوى مسائل إنسانية متغيرة ونسبية وغير يقينية، وربما لا يكون ذلك خطأ. لكنه ليس ديناً.

الحال أنّ الدين لا يفهم من داخله، أي على أساس نصوصه الدينية، إلا على مستوى فردي. وأما فهمه في الفضاء العام فلا يكون إلا من خارجه، وبالنظر إليه كمنظومة ثقافية، وذلك يكون مستمداً من تجارب إنسانية ومجالات علمية؛ فالعلوم والتطبيقيات الدينية في فضائها العام ليست ديناً، لكنها تردّ إلى العلوم البحتة لملاحظة السلوك الإنساني تجاه الخوف والبقاء، والفلسفة لإدراك حقائق الأشياء، والأنثروبولوجيا لفهم سلوك الإنسان الثقافي، والاجتماع لفهم وإدارة التنظيم الاجتماعي والأخلاقي، والجينالوجيا لفهم التكوين المعرفي وتاريخ الأفكار، وعلم النفس لفهم سلوك الإنسان باتجاه المعنى والجدوى، وكذا في القانون والاقتصاد والسياسة؛ أي إنّ الدين في فضائه العام ليس اختصاص رجال الدين وعلمائه وحدهم؛ بل هم في ذلك الأقلّ حضوراً وتأثيراً.

الدين لا يفهم من داخله أي على أساس نصوصه الدينية إلا على مستوى فردي

وفي ذلك، إنّ الاعتدال الديني لا يصنعه تفسير معتدل للنصوص الدينية؛ بل تقدم اقتصادي سياسي اجتماعي، والفهم المتقدم للدين يصنعه تقدم علمي وتعليمي شامل، فلا يمكن أن ينشأ اعتدال ديني في ظلّ تخلف اقتصادي واجتماعي، ولا يمكن أن ينشأ فهم متقدم للدين من غير تقدم علمي وتعليمي شامل.

هكذا، فإن الإلهي أو المقدس في الدين لا يعود كذلك حين يحلّ في الفضاء الدنيوي، بما هو إنساني يستمد وجوده ومبرراته من أنه خاضع للمراجعة والشعور الدائم باحتمالات وتأثير الخطأ والمصالح والأهواء ونقص المعرفة ونموها وتصحيحها، وأن يكون تأسيس الدين على نص يؤمن أتباعه بأنّه نزل من السماء، لا يعني أن يكون أيضاً مقدساً، ونزل من السماء كلّ ما يتصل بالدين وفهمه، وفي علائقه المعقدة بالمجتمع والفرد والتشريع والاقتصاد والسياسة، القداسة تقتصر على المعنى الأصلي والنقي الذي حلّ في النص، والذي يعتقد المؤمنون به أنّه نزل من السماء، لكن ذلك لا يمتد إلى متواليات وسياسات كثيرة ومختلَف حولها بالنسبة إلى الدين.

لا مناص من الإقرار بأن سيد قطب منح التطرف تماسكاً وقوة وتأثيراً عميقاً في العقول والقلوب

ليس مفيداً في شيء؛ بل هو ضرر وخلل كبير أن ينشئ باحثون ودعاة توفيقاً بين الدين والحداثة؛ إذ لا يمكن الخروج من المأزق إلا بأنسنة الإنساني؛ أي ردّ العالم المشهود إلى العقل، دون انشغال بالتوفيق بين العقلي والديني. وردّ الميتافيزيقي إلى الميتافيزيقيا دون أن يؤثر ذلك في الحياة في العالم المشهود، وهذا هو معنى عالم الغيب وعالم الشهادة، وليس مهماً، ويجب ألا يعني شيئاً؛ أنّ الدين يؤيد، أو يعارض، الحداثة أو التقدم، أو التخلف، أو الديموقراطية، أو أساليب الحياة واتجاهات الطعام واللباس، أو كروية الأرض.

وأن تكون الجهود المعرفية في ذلك قوية الحجة ومدعومة بمعرفة واسعة وذكاء متقدم لأصحابها، لا يغير من حقيقتها، بل إنّ أسوأ ما أصاب الحالة الإسلامية في نسختها المتطرفة أو المتخلفة؛ أنّه تيسر لها مفكرون وباحثون على قدر متقدم من العلم والذكاء؛ مثل سيد قطب، ومن قبله أبو حامد الغزالي؛ إذ لا مناص من الإقرار بأن سيد قطب منح التطرف تماسكاً وقوة وتأثيراً عميقاً في العقول والقلوب، وأن الغزالي أنشأ قاعدة علمية ودينية متماسكة وصلبة لتكريس الجمود والتبعية ومحاربة الاجتهاد والإبداع.

أنشأ الغزالي قاعدة علمية ودينية متماسكة لتكريس الجمود والتبعية ومحاربة الاجتهاد والإبداع

اليوم، يمتد الدّين في الفضاء العام في حضور مؤثر ومتزايد في الثقافة والصراع، كما الاقتصاد والسياسة والاجتماع، ويشمل ذلك تقريباً جميع الأمم والأديان، وإن كان بتفاوت كبير في المحتوى والمنهج وفي علاقة الدين بالفضاء العام، وأظنّ أنّ الأزمة الدينية مردّها إلى الرجوع إلى المحتوى الديني في المجال العام، في حين أنّ التشكل الديني في فضائه العام مستمد من خارج الدين وليس من داخله.