إبراهيم غرايبة يكتب:
لماذا يخلو الإسلام السياسي من المفكرين؟
يُظهر التأمل في الخريطة الفكرية "الإسلامية" غياباً تاماً أو شبه تام للإسلام السياسي، فالفكر الإسلامي المعاصر اليوم يقوده ويؤثر فيه مجموعة من المفكرين والباحثين لا تكاد تجد بينهم لقادة أو كتاب الإسلام السياسي أثراً يذكر، سوى إسهامات فردية محدودة لا تنظر إليها جماعات الإسلام السياسي باعتبارها تمثلها، بل هي إسهامات معزولة في الإسلام السياسي، وتلقى اهتماماً واحتراماً في خارج نطاق الجماعات ومؤيديها.
وحين تذكر المفكرين المؤثرين اليوم في مشهد الاجتهاد الإسلامي والمعالجات المعاصرة، يتبادر إلى الذهن فوراً قائمة طويلة من المفكرين والباحثين ليس للإسلام السياسي فيها سوى حضور فردي محدود ويتيم؛ علي عبد الرازق، ونصر حامد أبو زيد، ومحمد أركون، ومحمد شحرور، وعبد الله النعيم، ووائل حلاق، وأبو القاسم الحاج، ومالك بن نبي، .. هناك على شواطئ الإسلام السياسي أعمال وإسهامات مثل حسن الترابي، وراشد الغنوشي، ورحيل غرايبة، ومحمد فتحي عثمان، ومحمد الغزالي، لكنها تحسب على سياق الفكر والتنوير خارج نطاق الإسلام السياسي، وهناك أعمال مؤسسة في الإسلام السياسي مثل سيد قطب، وهي أيضاً برغم ما تحظى به من قبول وتعاطف تقادمت، وهي في الواقع ليست منجزات للإسلام السياسي بقدر ما حملها والتزم بها من خارجه؛ إذ إنّ سيد قطب يمثل في الإخوان المسلمين حالة سائدة محرجة لقادتها الذين يحاولون التخلص منها، ومن العجيب أنّ كتاباً مثل "دعاة لا قضاة" للمرشد الثاني لجماعة الإخوان المسلمين حسن الهضيبي لا يكاد يكون معروفاً أو مقروءاً في أوساط الجماعة.
يُظهر التأمل في الخريطة الفكرية "الإسلامية" غياباً تاماً أو شبه تام للإسلام السياسي
هناك مؤسسات للأسلمة أنفق عليها مبالغ طائلة فشلت في الفكر والنشر العلمي لكنها نجحت (مالياً) في مجالات الاستثمار والسياحة والتمويل وأسلوب الحياة، وهذا محير ومقلق أيضاً، والظاهرة الأخرى أنّ معظم، إن لم يكن جميع، إنجازات الإسلام السياسي الفكرية كانت في سياق العمل الحكومي الرسمي مثل الجامعات ورسائل الماجستير والدكتوراه التي أعدت في الجامعات الرسمية، وليس في أوساط النشر والتأليف والعمل في الإسلام السياسي؛ ما يؤكد مقولة أشرت إليها في مقالة أخرى أنّ الإسلام السياسي لا يمثل في واقع الحال ظاهرة مستقلة بذاتها، لكنه حالة تابعة وفي أحيان متطفلة، ففي موجة التدين أو ما سمّي الصحوة الإسلامية كان الإسلام السياسي مستثمراً فيها، كما يفعل المقاولون والتجار الذين اشتغلوا باتجاهات وظواهر الإقبال على ما هو "إسلامي" في اللباس والطعام والسلوك والتمويل والتعليم والإعلام، وفي برامج ومشروعات الدول والأنظمة السياسية للعمل الديني والمؤسسات الدينية كانوا تابعين للدول والأنظمة السياسية، ثم انفضت هذه الشراكة في دول أو تحولت في دول أخرى باتجاهات سياسية وظيفية أكثر مما هي دعوية وفكرية، بل إنّ الإسلام السياسي لم يعد له من الفكر والدعوة سوى تاريخ وذكريات!
وإذا نظرنا في الحالة الثقافية العامة السائدة، فلا يكاد يكون للإسلام السياسي حضور أو أثر يذكر في الفلسفة والشعر والموسيقى والقصة والرواية والدراما والفنون التشكيلية والمسرح والعمارة والتصميم والذائقة وأسلوب الحياة، بل إنّ جماعات الإسلام السياسي ومؤيديها تشكل تهديداً للثقافة والآداب والفنون، وأداة تحريض على الفكر والإبداع، وإعاقة لكل محاولة أو مبادرة في هذا المجال.
الإسلام السياسي لا يمثل في واقع الحال ظاهرة مستقلة بذاتها لكنه حالة تابعة وفي أحيان متطفلة
وإذا مضينا في متوالية التفكير والتداعيات المتصلة بظاهرة التصحر الفكري والثقافي للإسلام السياسي فإنّه يمكن التقدير خطورة هذه الحالات على المجتمعات والقيم والمنظومة الاجتماعية التي تستوعب حياة الأمم واتجاهاتها، ففي ظل صعود أهمية الثقافة والفلسفة اليوم لاستيعاب حالة اللايقين والتحولات الكبرى الجارية اليوم لا تملك الأمم سوى أن تنشئ ثقافة متقدمة وحيوية تحمي مكتسباتها وتعظمها وتجددها، وتساعدها بطبيعة الحال على إدارة التحولات، هكذا تنظر المؤسسات الدولية والفكرية اليوم إلى رأس المال الإنساني والاجتماعي كمورد أساسي للتقدم أو لحماية الأفراد والمجتمعات أو بناء التماسك الاجتماعي ومواجهة الهشاشة.
ربما لا تكون جماعة الإخوان المسلمين وشبيهاتها جماعات عنيفة؛ لكنها بالخواء الذي تنشئه في عالم التدين والمجتمعات تؤسس للانفصال الاجتماعي عن الواقع ومتطلباته، وتنشئ أو تساعد على إنشاء بيئة من التطرف والهشاشة الاجتماعية وضعف الفاعلية والإنتاجية؛ بدلاً من أن تكون مظلة للتقدم ومساعدة المجتمعات والأفراد على الارتقاء بوعيها وذاتها ومواردها؛ فالجماعات والقيادات الاجتماعية تتحمل اليوم مسؤولية إعادة تنظيم المجتمعات والأمم باتجاه أولوياتها ومصالحها أو إدراكها على الأقل، وفي ذلك فإنّ الفكر والثقافة يجب أن يعكسا حياة الناس وتطلعاتهم وما يحبون أن يكونوا عليه، وما يجب فعله ليكونوا ما يحبون.
وقد طورت الأمم والمنظمات الدولية مجموعة من المؤشرات الثقافية والاجتماعية التي تحول العمل والتنظير الفكري والثقافي إلى قيم للعمل والإنتاج والتقدم، وصارت تسميها رأس المال الاجتماعي، مثل الثقة والمساواة والإتقان والتسامح والتعايش والتطوع والسلامة العامة والسلوك الاجتماعي وأسلوب الحياة، ويقابلها بطبيعة الحال الظلم والتعصب والتلوث والهدر والجريمة والإدمان والضغوط النفسية والاجتماعية، وهي مؤشرات لا تتشكل على نحو وعظي أو تهبط على الأمم من خارجها لكنها محصلة منظومة ثقافية وفكرية متصلة بحياة الناس ومواردهم وأعمالهم، وإذا لم تكن الأفكار والثقافات في هذا السياق فإنّها تعمل ضد الذات.