إبراهيم غرايبة يكتب:
الحكومات والجماعات: نزاع ديني أم صراع على الدين؟
كانت المؤسسة الدينية على مدى تاريخ الحضارات وفي جميع الأديان جزءاً من السلطة السياسية أو شريكاً لها، وكانت الحالات التي حدث فيها نزاع ديني أو ديني سياسي بين السلطات السياسية وجماعات معارضة استثناء ينتهي دائماً بعودة المؤسسة الدينية لتكون حليفاً للسلطة السياسية السائدة، فلم تسمح أنظمة الحكم أبداً أن تكون المؤسسة الدينية معارضة لها، لأنه وببساطة يمنح الدين حوافز ودوافع قوية لأتباعه للعمل والتأييد والمعارضة والقتال، وفي ذلك يمكن ببساطة فهم الصراع الدائر اليوم بين الجماعات الدينية والأنظمة السياسية.
يمنح الدين دوافع قوية لأتباعه للتأييد والمعارضة والقتال وفي ذلك يمكن فهم الصراع الدائر بين الجماعات الدينية والحكومات
يقول مالوري ناي في كتاب (الدين: الأسس)، إنّه يمكن للدين والأيديولوجيا أن يولدا السلطة، ويمكن أن يكون الدين نفسه جزءاً من الخطاب الذي يفسر علاقات السلطة وتوقعاتها، ويمكن أن يعمل في تنظيم العلاقة بين الطبقات وفي تنظيم العلاقات الاجتماعية والثقافية في الحياة اليومية. وقد تكون الأيديولوجيات الدينية بوصفها مجموعة من الأفكار والممارسات جزءاً من تبرير وفرض علاقات السلطة، كما يمكن أن تكون هذه الأيديولوجيات وسيلة يتم من خلالها الاعتراض على السلطة ومقاومتها. وفي ذلك، فإنّ "الحقيقة الدينية" تكوّن توقعات السلطة ومصالحها وأهواءها وتقديراتها.
المؤمنون يحتاجون إلى الحقيقة، والناس في قلقهم وحيرتهم وفشلهم يحتاجون إلى الإيمان، والسلطة تتطوع بتوفير الإيمان والحقيقة، فهي (السلطة)، كما يقول ميشيل فوكو، تسود كل مكان ليس لأنها تشمل كل شيء، لكن لأنها تنبعث من كل مكان. هكذا، فإنّ السلطة وهي تشكل الخطاب تنتج نظاماً للحقيقة، ذلك أنّ الخطاب هو الطريقة التي نفهم بها العالم وننشئ الحقائق، فما العالم والحقائق سوى ما نتصوره عنهما، وفي تنظيم القوة والمعرفة يتشكل الخطاب. وبالطبع، فإنّ المعارضة في خطابها الديني تتحدى السلطة وتنشئ نظاماً آخر للحقيقة، يقول القس ديزموند توتو رئيس الكنيسة الإنجيلية في جنوب أفريقيا والحائز على جائزة نوبل 1984، إذا اقترح أحد أنه لا توجد علاقة بين الدين والسياسة فإنّه يقرأ في إنجيل مختلف عن إنجيلي.
المؤمنون يحتاجون للحقيقة والناس بقلقهم وفشلهم يحتاجون للإيمان والسلطة تتطوع بتوفير الإيمان والحقيقة
إنّ الدين بذاته أو في هيئته الأصلية ليس سبباً للمعاناة أو التقدم، وعندما وصفه ماركس بأنّه "أفيون الشعوب" كان يقصد بأنه مخرج الناس والسلطة معاً لتبرير الظلم أو تحمله، فهو بالنسبة للمظلومين دواء أو مسكن، وبالنسبة للطبقات المهيمنة تمرير أو تلطيف لعدم المساواة السياسية والاقتصادية. أو كما يراه غرامشي أداة الطبقة السائدة لجعل الإذعان لها أمراً مقبولاً وجزءاً من الحياة اليومية والثقافية. والأيديولوجيا، كما يراها المفكر الفرنسي الماركسي التوسير، هي وسيلة لرؤية الحقائق الأخرى؛ أي الوهم المضلل رغم أنها تشير ضمنياً إلى الحقيقة. هكذا وفق ألتوسير فإنّ المقموعين تمنحهم الأيديولوجيا شعوراً بالحرية من دون أن تحررهم بالفعل، ويسلكون في الإذعان بحريتهم ووعيهم وإرادتهم كتابعين. إنّهم يعتقدون أنّهم أحرار، لكنهم في الواقع سجناء أيديولوجيا تشعرهم بأنّهم أحرار.
وعندما رأى ماكس فيبر أنّ الدين أساس للتقدم الرأسمالي، لم يكن يقصد بالطبع أنه منشئ للرأسمالية البروتستانتية الأمريكية، لكنه بالتأكيد عامل مساعد، ففي فهمه الدقيق للظروف المادية والأيديولوجية والاجتماعية التي سادت في أمريكا الشمالية في الفترة من القرن السادس عشر إلى الثامن عشر، قدم ماكس فيبر تصوراً مهماً للرأسمالية وعلاقتها بالبروتستانتية والتي من خلال تشجيعها على الانضباط والزهد بين أتباعها مع المحافظة على الاقتصاد والعمل الدؤوب شجعت على تطوير الرأسمالية كنظام اقتصادي اجتماعي. لكن مؤكد أنّ الرأسمالية بدأت في أوروبا قبل ذلك بكثير.
عندما وصف ماركس الدين بأنّه أفيون الشعوب قصد بأنه مخرج الناس والسلطة معاً لتبرير الظلم أو تحمله
وما تزال الكنيسة في دول عدة في القارات الأوروبية والأمريكية رغم علمانيتها مرتبطة بالسلطة، وتمثل أداة مهمة لإضفاء الشرعية على السلطة، أو أداة لتنفيذ القانون وبناء الهوية والإجماع الوطني، أو ما يجعل المواطن يتصرف ويفكر دائماً تحت تأثير الشعور بأنه مراقب. وليس له خيار سوى أن يمضي في طريق السلطة الممهد والواضح والآمن، أو الحرية مع التيه والفوضى.
لكن تصعد اليوم في ظل الشبكية والعولمة علاقات جديدة للقوة والإنتاج والتأثير، ومثل الموبايلات الذكية والطابعات ثلاثية الأبعاد وما صاحبهما فوراً وتلقائياً من صعود كبير ومؤثر للفردانية تحدياً كبيراً للسلطة السياسية والدينية والمجتمعات في قدراتها على التنظيم الاجتماعي والأخلاقي للمواطنين. إذ لم تعد المؤسسات السياسية وأذرعها الدينية الإعلامية والاجتماعية والثقافية والتعليمية قادرة على تنظيم الناس وتوجيههم، ولم يعد للتنشئة وجهة يمكن التنبؤ أو التحكم بها، وليس ما جرى ويجري في شبكات التواصل الاجتماعي سوى جزء بسيط من واقع جديد يتشكل على نحو فوضوي (فوضى بمعنى عدم معرفة المبادئ المنظمة أو العجز عن التحكم بها)، .. هذا السلوك غير الاجتماعي الذي ملأ الحياة والفضاء لن تضبطه كل محاولات التوجيه والتذكير والوعظ والإرشاد والانتقاد، فالسلوك الاجتماعي يعكس منظومة الحياة الأساسية والموارد والأعمال المتشكلة حولها، وليس ما يجري من كراهية وتطرف وفوضى وعنف لفظي وفعلي وفوضى في القيم والمبادئ المنظمة للعلاقات الاجتماعية والحياة اليومية سوى الفوضى نفسها في الموارد والأعمال والأسواق، ففي هذا السلوك المستمد من أسلوب الصيادين وجامعي الثمار بمعنى أنّ الخطأ أو الحرام هو ما لا تستطيع أن تحصل عليه.