علي الصراف يكتب:

قطر قبل "قمة العلا" وبعدها

لم تزل سياسات الضرّ والأذى تحز في النفوس. فقطر التي تبدو وكأنها كسبت إلغاء المقاطعة العربية، لن تجد منعطفا سهلا أمام سياساتها ضد الجوار الخليجي وبمن هم أبعد. تلك السياسات كانت بمثابة جينات لا تني تترك بصماتها على كروموزومات الدعاية والتحريض. وهو ما يكاد يعني أن شيئا لن يتغير في المسالك.

لقد حصلت قطر على “نصر”. هذا ما يتقدم الانطباعات فيها. ولكنه نصرٌ على مَنْ تحتاج هي إليهم؛ نصر على مَنْ تشكو هي من عزلتها عنهم؛ ثم إنه نصر على مَنْ تريد أن يفتحوا لها الطرق. أفهل كان نصرا بالفعل؟ وهل ضاعت المطالب الـ13 التي طالبت بها دول المقاطعة العربية؟

بكل تأكيد، لا. لقد أثبت الاتفاق على رفع المقاطعة أن الحاجة إليها أكثر مما كانت من قبل. ذلك لأن المسالك العوجاء إذ كسبت الاستئناف، فإن عواقب الأذى لم تكن جارحة للحكومات وحدها، وإنما لعشرات الملايين ممن يرفضون تلك المسالك، ويرون فيها منهجا يقوم على التخريب وزرع الشقاق، واختلاق الأزمات لخدمة أجندات مريضة.

أن تكون مريضا فهي مشكلة، وأن ينتصر المرض على الطبيب مشكلة أكبر، ولكن الناس إذ ترى وتعرف جوهر العلة، فإنها لن تقنع بأن يُصبح المرض هو القاعدة. إنه الاستثناء دائما. وهو سيظل يستوجب العزل.

لم تقدم قطر في القمة الخليجية الـ41 أدلة على استعدادها للتراجع. اكتفت بالقبول العريض في بيانها الختامي وبالتوقيع على اتفاق رفع المقاطعة. وظلت تُؤثِر ما تعتبره حقا سياديا في أن تختار ما تشاء من الأذى للآخرين.

وهذا “مكسب”. إلا أنه أقرب إلى الخسارة، لأنه تحقق بغطرسة مشهودة على الجميع. التعويض الوحيد الذي قدمته قطر هو أنها سوف تتخلى عن القضايا القانونية التي رفعتها ضد دول المقاطعة عن الأضرار التي لحقت بها جرّاء إغلاق الممرات والطرق عليها.

لم تكن تلك القضايا جادة، على أيّ حال. ولا أحد كان سيفقد منامه بسببها. ولكن، إذا كان لا يمكن الكشف عن تغيير في مناهج التخريب، فقد كان “التخلي عن القضايا القانونية” هو العرض الوحيد الذي لا بدّ من قبوله أو تسوية الأمر على أساسه.

لقد كسبت قطر حكما من محكمة العدل الدولية بأن المقاطعة ألحقت بها ضررا. ورضيت قمة العلا بوقف الضرر. ولكن من ذا الذي يوقف الجريمة التي لم تكف قطر عن دعمها؟ من ذا الذي، إذا ذهب إلى ليبيا، سيقبل أن تتحول هذه البلاد إلى مستعمرة تركية بتمويل قطري؟ ومن ذا الذي يقبل بأن يكون تمويل منظمات الإرهاب جزءا مما يجب التعايش معه؟ وكيف يمكن التسامح مع مليار دولار أو أكثر ذهبت إلى الحرس الثوري الإيراني وميليشياته في العراق ولبنان؟ وكيف يمكن القبول بأن تتحول قطر إلى قاعدة، خلفية أو أمامية، لجماعة الإخوان، والناس كلهم يعرفون من تكون؟

ما من محكمة يمكنها أن تحكم الآن على قطر، إلا تلك التي يقيمها الليبيون والسوريون والعراقيون والإيرانيون أنفسهم على دولة استنفدت كل ما لديها من وسائل لخدمة الإرهاب ومنظماته وأجنداته.

والضحايا كثيرون. إنهم أكثر بكثير مما يمكن أن يتحمل عواقبه نقص الضمير، بل أكثر بكثير مما تتحمله الجرأة في الباطل.

أعمال قطر، هي التي دفعت إلى محاولة عزلها. كانت تلك المحاولة تعبيرا عن اليأس حيال العناد المريض على الباطل.

بعد سلسلة من المحاولات، والاتفاقات والتوقيعات، أُسقط في يد الدول الأربع، فلم تجد سبيلا إلا أن تقطع الخطوط. كان ذلك بدافع الاضطرار أمام حقيقة أنها لا تريد أن تلحق بقطر ضررا أشدّ، أو أن تتدخل في شؤونها الداخلية كما تفعل هي، أو أن تفرض عليها ما لا تجرؤ على أن تختاره بنفسها.

كانت تلك المحاولة، نوعا من تذكير متواصل، بأن للأخوة التزاماتها، وأن المسالك الضارة بالاستقرار يجب أن تتوقف. فماذا فعلت الدوحة؟ لقد زادت البلاء سوءا. حتى أصبح وجود قواعد تركية في قطر هو الرد. وحتى أصبح تمويل المشروع العثماني الجديد هو التهديد.

التمسك بالباطل لا يجعله حقا. وأن تأخذ المرءَ العزةُ بالإثم، لا يتحول بفضلها إلى تقي. وأن يُجند الحمقُ موارده لجماعات الإرهاب والتخريب، لا يجعله عاقلا، وأن يخدم الشقاقُ مشروعا أيديولوجيا ظلاميا، لا يجعله أخا شقيقا.

قطر تنظر، بأعمال التخوين والتحريض، إلى سيادتها على أنها أهم من سيادة الآخرين على أرضهم أو ممراتهم الجوية. ولكن بات يتعين قبول تلك النظرة، وفي الأعين المقابلة نظرات تجمع بين التساهل، لتقديم الأهم على المهم، وبين الترفع عن الصغائر، حتى ولو كانت كبائر.

تصغيرُ الأذى من كبر النفس. ذلك هو الشعور الذي غلب في النهاية على من تجرحوا بكل ما حملته قطر إليهم من مسالك، قصدت التحريض المبتذل، بل اختارت مزعم “السيادة” لكي تمارس من خلفها كل الشرور الأمنية والاستراتيجية الأخرى.

ماذا قدمت قطر لأشقائها؟ لا شيء. وماذا ستقدم لهم في حرصهم على تصغير الأذى؟ لا شيء أيضا. بل ربما ستبيع إليهم “سيادتها” مرة أخرى، التي ستعود لتنكأ الجروح التي حاولت قمة العلا أن تداويها من أجل خير الجميع.

مشاعر الأخوة الخليجية ليست مجرد مشاعر. إنها التزامات. وقطر لا تزال تمثل، بتحالفها مع إيران وتركيا، خرقا لالتزامات الأخوة ومتطلباتها، دع عنك مشاعرها.

مشكلة قطر الحقيقية ليست مع حكومات دول المقاطعة. مشكلتها مع الناس. مع عشرات بل مئات الملايين ممن يرون إلى أن يذهب المال القطري، وماذا يمول.

قبل قمة العلا، كانت قطر شيئا. وبعدها، هي الشيء نفسه. لا أحد ينتظر التغيير. ولا أحد يرجوه أيضا. فلقد أبت أن تقدم التنازل، لكي لا تزيد مشاعر الصغر صغرا. وتوجّب على كبر النفس لدى الآخرين أن يتعالى على الأذى، بل وأن يقبل به. حتى لكأنه نوع من “غسل اليد”. إنه قبول للمرارة لعله يمكن تحاشي الأمرّ منها. هذا هو المكسب الوحيد. هذا هو النصر المقابل الذي بات على المجروح أن يحتفل به ليواسي ما لحق به من ضرر.

تستطيع قطر أن تكسب قبولا من الحكومات بإنهاء المقاطعة، أملا منها بأن الخير قد يستطيع في النهاية أن يفرض نفسه، وأملا بأن تنتهي من الصداع، لتنشغل بتحديات أخرى. وطالما أن فتح الممرات الجوية يقلص من حجم ما تقدمه قطر من أموال لسلطة الولي الفقيه، أو يزيل التبرير فيه، فلا بأس. ولكن المسالك العوجاء لن تبرح الطريق الذي دأبت عليه. وهذا ما سيظل الناس يدركون مخاطره ويرون ماذا تعني على حياتهم واستقرار دولهم وسيادتها. والناس لا يجهلون أنها بصمات في جينات الغطرسة، وأنها ممّا لا يقبل التغيير.