د. صبحي غندور يكتب لـ(اليوم الثامن):
أهو غروب شمس أميركا أمْ شروق يومٍ جديد؟
بنجامين فرانكلين، أحد الآباء المؤسّسين للولايات المتحدة، والذي نجد صورته على ورقة المائة دولار، سئل عن لوحة كان يضعها في مكتبه تتضمّن رسماً للشمس في الأفق: "هل هي شمس الغروب أو الشروق؟"، فـأجاب بأنّ الأمر متروكٌ للناظر إليها لكي يختار ما يريد!. وهكذا هي أميركا الآن أمام خيار الاندفاع نحو مزيدٍ من التأزّم السياسي والأمني أو إمكانية إعادة تصحيح ما هدّمه فيها دونالد ترامب طيلة السنوات الأربع الماضية، والتي كان بئس ختامها في نكرانه لنتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة وتحريضه على اقتحام مبنى الكونغرس.
إلى أين تتّجه الأحداث الآن في أميركا هو السؤال الذي يشغل العالم كلّه، والذي ترتبط الإجابة عنه في الحاضر بما سيقرّره ترامب من مصيرٍ لنفسه. لكن بغضّ النظر عن تداعيات الحاضر، فإنّ مستقبل أميركا ووحدة مجتمعها ودورها العالمي هي قضايا مرهونة الآن بالوقفة الأميركية مع النفس على المستوين الشعبي والسياسي. فحجم الانقسامات في المجتمع الأميركي هو أكبر من مسألة خلاف بين حزبين أو على من يكون الرئيس. فهي انقسامات شاملة لمقوّمات الأمّة الأميركية بكل أبعادها الثقافية والعرقية والدينية.
إنَّ أميركا ذات الأصول الأوروبية البيضاء البروتستانية تعيش حاليًّا مزيجًا من تباينات وخلافات بسِمات دينية وثقافية بحقّ المهاجرين الجدد عمومًا، وفي طليعتهم القادمون من أميركا اللاتينية، وضدّ بعض العرب والمسلمين، إضافةً إلى مشاعر عنصرية كامنة لعقودٍ طويلة ضدّ الأميركيين الأفارقة ذوي البشرة السوداء. وهذه الحالات من التمايز والتمييز على أساس لون أو دين أو ثقافة هي التي تهدّد وحدة أي مجتمع وتعطّل أي ممارسة ديمقراطية سليمة فيه. فكيف إذا ما أضيف إلى هذا الواقع برنامج اليمين المحافظ الأميركي الذي كان عليه ترامب في السنوات الماضية، إضافةً إلى الانقسام السياسي التقليدي في أميركا بين "ديمقراطيين" و"جمهوريين" وما في كلِّ معسكر من برامج صحّية واجتماعية واقتصادية مختلفة، وتأثيرات هامّة لشركات كبرى ومصالح ونفوذ "قوى الضغط" الفاعلة بالحياة السياسية الأميركية!!.
فأميركا تأسّست كمجتمع على ما يُعرف اختصارًا بأحرف: WASP والتي تعني باللغة الإنجليزية "الرجال البيض الأنجلوسكسون البروتستانت". والدستور الأميركي العظيم الذي جرى إعداده منذ حوالي 233 سنة، كان معنيًّا به أوّلاً وأخيرًا هؤلاء المهاجرون القادمون من أوروبا، والذين مارسوا العبودية بأعنف أشكالها ضدّ الإنسان الأسود البشرة المستورد من أفريقيا، إلى حين تحريره قانونيًا من العبودية على أيدي الرئيس إبراهم لنكولن، بعد حربٍ أهلية طاحنة مع الولايات الجنوبية التي رفضت إلغاء العبودية في أميركا.
طبعاً أميركا الحديثة هي غير ذلك تمامًا، فالهجرة الكبيرة المتزايدة إلى الولايات المتّحدة، في العقود الخمسة الماضية، من مختلف بقاع العالم، وبشكلٍ خاص من أميركا اللاتينية، بدأت تُغيّر معالم المجتمع الأميركي ثقافيًا ودينيًا واجتماعيًا وسياسيًا، وقد احتضن "الحزب الديمقراطي" هذه الفئات الجديدة، بينما سار "الحزب الجمهوري" باتّجاهٍ محافظ ولّد فيما بعد ظاهرة "حزب الشاي"، التي أصبحت قوّةً مؤثرة داخل تيّار "الجمهوريين"، في مقابل نموّ وتصاعد "التيّار اليساري الليبرالي" وسط "الحزب الديمقراطي"، والذي عبّر عنه في الحملات الانتخابات الماضية، المرشّح بيرني ساندرز.
محنٌ كثيرة مرّت على الأميركيين منذ نجاح ثورة استقلالهم عن التاج البريطاني، في الرابع من يوليو بالعام 1776، بقيادة جورج واشنطن وبدعمٍ من جيش فرنسي قاده الجنرال لافاييت. التاج البريطاني لم يعترف بالاستقلال الأميركي عنه إلاّ بعد 7 سنوات (في العام 1783)، ثمّ حصلت معارك عسكرية بين الإنجليز والأميركيين في مطلع القرن التاسع عشر (1814-1812) بسبب تدخّل الجيش الأميركي في المستعمرات البريطانية في كندا، وممّا أدّى إلى احتلال قوّة عسكرية بريطانية للعاصمة واشنطن وحرق المقرّ الرئاسي (البيت الأبيض) ومبنى الكونغرس.
وربّما أكبر محنة عاشتها التجربة الأميركية، منذ بدايتها قبل حوالي قرنين ونصف قرنٍ من الزمن، هي محنة الحرب الأهلية بين العامين 1861 و1865، حيث حارب فيها النظام الاتّحادي بقيادة إبراهام لنكولن (الجمهوري) الانفصاليين في إحدى عشرة ولاية جنوبية كانت تعترض على قرارت واشنطن بإنهاء العبودية وتجارة الرقيق، إضافةً طبعًا لمصالح اقتصادية رأتها الولايات الجنوبية من خلال تحقيق الانفصال. وقد سقط ضحية الحرب الأهلية حوالي 700 ألف جندي من الطرفين الشمالي والجنوبي إضافةً إلى أعدادٍ كبيرة من المدنيين.
وفي العام 1929 شهدت الولايات المتّحدة انهيارًا اقتصاديًا كبيرًا بسبب فوضى بيع الأسهم والمضاربات المالية، ممّا نتج عنه تراجعٌ اقتصادي ضخم، وتغييرات في النمط الاجتماعي بالمجتمع الأميركي، وإغلاق العديد من المصانع والمؤسّسات، وهجرة أعداد كبيرة من المزارعين إلى المدن، ولم يستعد الاقتصاد الأميركي عافيته إلّا بعد الحرب العالمية الثانية.
ثمّ عاشت أميركا محنةً أخرى في حقبة الستّينات من القرن الماضي حينما جرى اغتيال الرئيس جون كندي، وفي عامٍ لاحق (1968) جرى اغتيال شقيقه المرشّح للرئاسة روبرت كندي وزعيم الحقوق المدنية القس مارتن لوثر كنج، وفي مناخٍ متأزّم داخل المجتمع الأميركي بسبب العنصرية ضدّ الأميركيين الأفارقة ونتيجة الحرب الفاشلة في فيتنام.
ثمّ في حقبة السبعينات، أدّت فضيحة "ووترغيت" التي نتجت عن تجسّس الحزب الجمهوري على مقرّ الحزب الديمقراطي إلى استقالة الرئيس ريتشارد نيكسون، وبعد أزمة سياسية كبيرة عاشتها واشنطن، وانعكس ذلك سلبًا على "الجمهوريين" في انتخابات العام 1976 حيث فاز المرشّح الديمقراطي جيمي كارتر.
وفي مطلع القرن الحالي، شهدت أميركا الأعمال الإرهابية يوم 11 سبتمبر 2001، والتي وظّفها "المحافظون الجدد" في إدارة بوش الابن لتبرير حروب كبرى في أفغانستان والعراق، ولتغييراتٍ هامّة في السياستين الداخلية والخارجية. وقد نتج عن هذه الحروب والسياسات خسائر بشرية ومادّية كبيرة، وانتهت فترة بوش الابن بتدهورٍ اقتصادي أميركي كبير، وبفوز المرشح الديمقراطي باراك حسين أوباما في انتخابات العام 2008 كأوّل رئيس أميركي من أصول أفريقية.
هذه نماذج من محن وأزمات سياسية وأمنية واقتصادية مهمّة عاشتها الولايات المتحدة في سياق تاريخها الحديث نسبيًا، وهي الآن تمرّ في محنة جديدة فيها مزيج من رواسب الماضي ومن المخاوف على المستقبل ومن سوء إدارة الحاضر. فأميركا تحتاج لوقفةٍ مع نفسها لمراجعة ما ساد من سياسات في ظلّ إدارة ترامب أوصلتها إلى منعطفٍ خطير يهدّد أمنها ووحدتها. فهناك ازدهارٌ لظاهرة التسلّح الفردي في معظم الولايات الأميركية، ولممارسات عُنفية مختلفة الأسباب والأنواع، كان أخطرها طبعاً اقتحام مبنى الكونغرس من جماعات مؤيّدة لترامب ولكن لديها أجنداتها الخاصّة أيضًا. وهذه الجماعات العنصرية الحاقدة على الأميركيين الأفارقة وعلى المسلمين وعلى المهاجرين من أميركا الوسطى واللاتينية، لن تتنازل عن أجنداتها بعد رحيل ترامب من "البيت الأبيض"!.
*مدير "مركز الحوار العربي" في واشنطن