د. ابراهيم ابراش يكتب:
انتخابات فلسطينية مثيرة للقلق
بقدر الاهتمام الكبير بالانتخابات من كل قطاعات الشعب الفلسطيني شعبياً ورسمياً وحتى إقليمياً إلا أن حالة من القلق الشعبي تصاحب الإجراءات والاستعدادات وما تم اتخاذه من قرارات بهذا الأمر، ليس فقط من حيث فرص إتمامها في مواعيدها المحددة والتحديات التي تواجهها من أطراف خارج الحقل السياسي الفلسطيني سواء تعلق الأمر بإسرائيل أو أميركا والدول المانحة وحتى دول عربية، بل أيضاً من حيث قدرة الانتخابات التشريعية على إحداث تغيير حقيقي في النظام السياسي وإخراجه من حالة العجز والانقسام.
لو كان الأمر يتعلق بانتخابات عادية في دولة مستقلة لكانت الأمور أكثر وضوحاً وطمأنينة، مع أنه حتى بالنسبة للانتخابات التشريعية في الدول العربية التي تجري فيها انتخابات فإن هذه الأخيرة لا تغيِّر في النظام السياسي كما لا تعكس حالة ديمقراطية لأن البرلمان الذي يُفترض تمثيله للشعب وتعبيره عن إرادته ليس صاحب سلطة وقرار، بل مجرد ديكور لإضفاء طابع ديمقراطي على نظام سياسي غير ديمقراطي وحتى مهمة التشريع والرقابة تكون بلا معنى أو قيمة لأن القرار في النهاية يبقى بيد السلطة التنفيذية والرئيس/الملك وبطانته، وفي بعض الدول بيد الجيش والأجهزة الأمنية.
والأسئلة المركزية حول الانتخابات في السياق الفلسطيني هي: مَن هي الجهة المقررة للانتخابات؟ ولماذا يريد الفلسطينيون الانتخابات؟ وما وظيفتها في النظام السياسي؟
حتى لا نكرر ما سبق وأن كتبناه في العديد من المقالات حول الانتخابات فإن الانتخابات كما هي مطلب شعبي فإنها مطلب وجزء من الاشتراطات الدولية ومنصوص عليها في اتفاقية أوسلو، والتحدي الكبير هو كيف نجعل الانتخابات مهمة نضالية لتحرير النظام السياسي من استحقاقات أوسلو ومن الاشتراطات الأميركية والأوروبية؟
الشعب الفلسطيني يريد انتخابات نزيهة لإحداث تغيير جذري في النظام السياسي وفي الطبقة السياسية في غزة والضفة حتى يتم إخراج النظام السياسي من أزماته المتراكمة الناتجة عن الاحتلال وممارساته وعن ويلات الانقسام طوال 14 سنة، وإحداث هذا التغيير لا يكون من خلال انتخاب أعضاء مجلس تشريعي فقط لأن المشكلة ليست في المجلس التشريعي لا المُنحل أو سابقه، كما أن المجلس أو البرلمان ليس صاحب قرار سيادي بل مجرد أداة ببد السلطة التنفيذية وخصوصاً عندما تقوم حركتا فتح وحماس وهما السلطتان الحاكمتان في الضفة وغزة بتشكيل القوائم الرئيسية أو بتشكيل قائمة مشتركة، هذا بالإضافة إلى أن الشعب الفلسطيني لا يقتصر على ساكنة غزة والضفة فأهلنا في الشتات يجب ان يكون لهم رأي وحضور، وأي حديث عن إرادة الشعب يجب ان تشمل كل الشعب.
الانتخابات التشريعية وحدها لا تعني وجود الديمقراطية، وفي الحالة الفلسطينية الانتخابات التشريعية وحدها لن تُخرج النظام السياسي من أزماته، وإن كانت تمهد لذلك، إنها مجرد أداة لتداول السلطة، والمجلس التشريعي ليس السلطة المقصودة، كما أن السلطة بحد ذاتها ليست هدفاً حتى تكون الانتخابات وسيلة لتوزيع مغانمها وامتيازاتها، بل هي في الحالة الفلسطينية أداة في سياق نضال الشعب من أجل الحرية والاستقلال وإن لم ترتبط العملية الانتخابية بهذا الهدف فلا قيمة لها.
التداول الحقيقي على السلطة أو تغييرها يجب أن يمس من يملك السلطة الحقيقية في النظام السياسي وهذه السلطة –إذا تجاوزنا إسرائيل- بيد مؤسسة الرئاسة واللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير واللجنة المركزية لحركة فتح، وفي قطاع غزة السلطة بيد القيادات والأجهزة الأمنية والعسكرية والمرجعيات الخارجية لحركة حماس.
لا شك أنه من حق حركة فتح وحركة حماس، اللتين تملكان السلطة الفعلية، تشكيل قوائم خاصة بهما وهما اللتان ستتحملان نتيجة استنكاف الشعب عن التصويت لقوائمهم في حالة تصدر هذه القوائم وجوه كالحة وفاسدة، ولكن الشعب هو الذي سيدفع الثمن وسيتحمل المسؤولية أيضاً عن إعادة انتاج نظام عاجز وفاشل.
إن كان الشعب يتخوف من إعادة انتاج نفس النظام السياسي ومن عودة رموزه أكثر قوة لاستنادهم لمجلس تشريعي موال فإنه أيضاً يتخوف من عدم قدرة المجتمع وقواه الحية وكل من هم خارج الإطار التنظيمي للحزبين الحاكمين من تشكيل قوائم انتخابية قوية وتشكيل جبهة يمكنها منح الانتخابات قيمة ومصداقية وجعل المجلس التشريعي القادم به من التنوع ما يشكل قوة ضاغطة على السلطة الفعلية.
التخوف في هذا السياق أن تفشل القوى المجتمعية والسياسية خارج الحزبين الكبيرين في تشكيل قائمة موحدة تستطيع التنافس مع قائمتي فتح وحماس والقوائم الرديفة التي سيشكلها هذان الحزبان، وفي حالة تعدد القوائم قد لا تتجاوز أغلبها نسبة الحسم أو تحصل على مقاعد محدودة، وفي هذه الحالة لن يؤثر وجودها في البرلمان على السياق السياسي ولن تغير فيه بل قد تؤدي مشاركتها لتجديد شرعية الطبقة السياسية النافذة.
التخوف الأخير يتعلق بمستقبل المقاومة والشروط الأميركية والإسرائيلية للقبول بالانتخابات وبنتائجها والتعامل مع الحكومة التي ستنبثق عنها، فحتى الآن كل الجدل والنقاش حول الانتخابات يتعامل معها وكأنها شأن فلسطيني داخلي ويتجاهل الاشتراطات الخارجية.
مع أن الرئيس أبو مازن في خطابه في الجمعية العامة للأمم المتحدة في السادس والعشرين من سبتمبر 2019 قال بأنه سيجري انتخابات عامة مطالباً الأمم المتحدة وجهات دولية اخرى بالإشراف عليها إلا أن تحريك الملف مؤخراً له علاقة بالاستعداد لمفاوضات قادمة مع إسرائيل وبطلب إدارة بايدن بتجديد شرعية النظام السياسي، وواشنطن لا تريد انتخابات فلسطينية لأنها تريدنا أن نكون ديمقراطيين، بل تريد انتخابات تشريعية تشارك فيها كل القوى الفلسطينية وخصوصاً الفصائل المسلحة، لأن كل من سيشارك في الانتخابات وفي الحكومة الائتلافية التي ستُشكل بعد الانتخابات عليه الالتزام باتفاقية أوسلو والاعتراف بإسرائيل ووقف المقاومة المسلحة، وهنا سيكون التحدي لأنه سيتم فتح الملف الأمني والسلاح وجماعات المقاومة وخصوصاً في قطاع غزة، وفي حالة تمسك بعض القوى المشاركة بموقفها من المقاومة المسلحة وحقها بالحفاظ على سلاحها فلن يسمح لها بالمشاركة بالحكومة وإن شاركت سيكون مصيرها مصير حكومة إسماعيل هنية بعد انتخابات يناير 2006، أو استنساخ التجربة اللبنانية، فهل الفصائل التي ستشارك في الانتخابات مستعدة لدفع هذا الثمن؟
وفي حالة رفض بعض الأحزاب، مثل الجهاد الإسلامي، المشاركة في الانتخابات إن كانت هذا الأخيرة خاضعة لاشتراكات أميركية وأوربية والالتزام بالاتفاقات الموقعة مع إسرائيل، فهل يمكن لهذه القوى أن تستمر على نهجها بعد الانتخابات وأن تستمر في رفع شعار المقاومة والجهاد وخصوصاً إن شاركت حماس في الانتخابات وكانت جزء من الحكومة القادمة؟
لا نروم من كل ما سبق نشر الإحباط والتشكيك بالانتخابات بل المرام معرفة ما نحن مُقدمون عليه لأن الانتخابات ليست مجرد استحقاق ديمقراطي أو فرصة للبعض لتحقيق مصالح شخصية من خلال عضوية التشريعي، بل تحدي وطني به يرتبط مستقبل النظام السياسي والقضية الوطنية برمتها، وفي حال فشلها قد تعود الحالة أسوأ مما كانت عليه قبل الانتخابات؟ وحوارات القاهرة في الأيام القادمة ستكون محورية وستكشف مدي المصداقية وحسن النية عند القوى المجتمعة وقدرتها على مواجهة الاشتراطات والمطالب الخارجية التي قد يتم عرضها على المجتمعين.
قد يقول قائل إن الانتخابات ستبدأ بالتشريع ويليها انتخابات رئاسية ثم "استكمال المجلس الوطني"، ونعتقد أن انتخابات الرئاسة ستكون أكثر تعقيداً حيث سيكون هناك تداخل ما بين الرئاسات- رئيس السلطة ورئيس الدولة ورئيس منظمة التحرير الفلسطينية، وهذا موضوع سنتطرق له لاحقاً.
وأخيرا، ومع تلمسنا لكل المحاذير والمخاطر التي تهدد العملية الانتخابية، ولإيماننا بأن حركة فتح بقيادة الرئيس أبو مازن تقع عليها المسؤولية والرهان ولأنها تملك أوراق القوة داخلياً وخارجيا أكثر من غيرها، وهي التي ستتحمل المسؤولية في حالة نجاح أو فشل الانتخابات، نتمنى عليها في حالة إجراء الانتخابات النزول بقائمة واحدة من شخصيات وطنية حتى وإن كانت تخالفها الرأي في بعض المواقف وأن يكون على رأس القائمة الأسير مروان البرغوثي.