علي الصراف يكتب:
بايدن يقدم لإيران حزمة هدايا مسبقة
اختار الرئيس الأميركي جو بايدن أن يقع بفخ لم ينصبه له أحد. نصبه بنفسه. فضحك الإيرانيون ملء أشداقهم. بدا لهم كمن يقطع غصنا من شجرة وهو على الطرف الفالت فعرفوا أنه غبي. وهذا ما كان.
عندما سُئل بايدن في أحد أحدث مقابلاته هل ستقوم بإلغاء العقوبات على إيران قبل أن تمتثل لالتزاماتها بالاتفاق النووي؟ أجاب بكلمة واحدة “لا”. ولم يُزد عليها. هذه الـ”لا” أعطت انطباعين متضاربين. الأول، أنه صارم. والثاني، أنه لا يعرف ماذا يقول من بعدها.
السؤال نفسه كان يستبطن خشية من أن إستراتيجيته حيال إيران تقوم على ركنين فقط: عودوا فنعود.
هذا هو الجوهر. وهو غبي لأنه ينظر إلى إيران على أنها تهديد نووي ولا ينظر إليها على أنها دولة عصابة، دولة ميليشيات، دولة جرائم وانتهاكات، ودولة تهديدات من كل نوع آخر. وهي لا تحتاج لممارستها إلى سلاح نووي. يكفي أن تعطيها المال لتواصل ما تفعل وتنتعش.
يمتلك الرئيس بايدن خبرة طويلة عريضة في إدارة السلطة في واشنطن ويعرف دهاليزها بدقة. إلا أنه عندما يتعلق الأمر بالعلاقة مع كل قضايا الخارج، تبنى طريقا واحدا فقط؛ أن يقلب ما فعله سلفه دونالد ترامب انطلاقا من كراهية شخصية فحسب.
ترامب ليس ذكيا. إنه سطحي وأحمق. ولكنه مثل الساعة المتوقفة، يعطي التوقيت الصحيح مرتين في اليوم. إحدى هاتين المرتين كانت موقفه الصارم من إيران لأنه يعرف ما هو أصل المشكلة مع هذا البلد. وعندما اختار أن يقتل قاسم سليماني فلأنه كان يعرف من هو وماذا يعني بالنسبة إلى دولة العصابة ومشروع تصدير الثورة وجرائم الميليشيات التابعة له.
كل ما فعله بايدن في هذا الصدد هو أنه جلس على طرف الغصن الفالت كرها بترامب لا معرفة بأصل المشكلة. ولو بقي سليماني حيا فمن غير المستبعد، وفقا لاعتبارات الكراهية تلك، أن يمنحه وسام الحرية بدلا من أن يقتله.
هذا هو بايدن في الواقع. ولكي يثبت أنه غبي على نحو أعمى، فقد قدمت إدارته لإيران حزمة هدايا مسبقة بإلغاء طلب تجديد العقوبات الكاملة في مجلس الأمن والكف عن تقييد حركة الدبلوماسيين الإيرانيين في الأمم المتحدة والتعهد بإلغاء العقوبات عن إيران فقط مقابل عودتها إلى احترام التزاماتها بالاتفاق النووي.
نظرية “عودوا فنعود” استقبلتها إيران بالبحث عن تدابير لتسهيل المهمة، وليس لرفضها لأنها تعرف إلى ماذا سوف تنتهي.
لعبةُ المرونةِ والابتزاز التي وفرت للإيرانيين الفرصة لكي يخدعوا الولايات المتحدة بتوقيع الاتفاق النووي عام 2015 توشكُ الآن أن تحققَ نجاحاً جديدا.
الولاياتُ المتحدة قدمت “حسن النية” لكي تفتح الطريق أمام الدبلوماسية لعودة الطرفين إلى الاتفاق. فقدمت إيران التسهيلات والتدابير.
قصة من يبدأ أولا وفر وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف حلا لها بدعوة الاتحاد الأوروبي إلى لعب دور لجدولة متطلبات العودة المتبادلة.
أما قصة توسيع الاتفاق النووي أو البحث في قضايا أخرى مثل برنامج إيران الصاروخي أو نشاطاتها المزعزعة للاستقرار في المنطقة، فقد وفر لها الرئيس الإيراني حسن روحاني حلا آخر بالتلميح إلى إمكانية فتح بابٍ جديدٍ للتفاوضِ عليها بمعزلٍ عن تنفيذ التزامات الاتفاق النووي.
روحاني قال في اتصال هاتفي مع رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشيل إن بلاده مستعدة للتعاون مع الاتحاد الأوروبي في محاربة الإرهاب والتطرف، وأعرب عن ترحيبه بالتعاون الإقليمي في هذا الإطار.
والمعنى من ذلك هو أن تشارك دول المنطقة في هذا الإطار التفاوضي الجديد، بينما تكون العقوبات قد رُفعت. وساعتها فإنه يمكن لهذه المفاوضات أن تمتد لسنوات أو أن تفشل من دون أن يلحق بإيران أي ضرر.
تعهدُ بايدن برفع العقوبات مقابل احترام إيران لالتزاماتها هو الذي فتح أبواب الدبلوماسية لحل مشكلة الخطوات الأولى. وأحد الخيارات المطروحة هو إصدار إعلان نيات مشترك من الطرفين يؤكد احترامهما للاتفاق.
كعكة صفراء وقليل من إرهاب الميليشيات ومرونة في البحث عن تسويات توفر السبيل الآن للخدعة لكي تنطلي من جديد.
وغدا فلن يعوز إيران المال لكي تدعم المزيد من أعمال الإرهاب. فالميليشيات باقية، والخبرة متاحة لإنتاج كعكة صفراء أخرى، والصواريخ تطورت بما يكفي للوصول إلى أي مكان.
كل هذا أصبح ممكنا لأن إستراتيجية “عودوا فنعود” تعني أن الاتفاق النووي نظر إلى إيران على أنها “تهديد نووي” وترك كل ما عداه جانبا.
تريد إيران أن تدفع في نفس الاتجاه لأنها هي الأخرى تتبنى الإستراتيجية “عودوا فنعود”. ولكي تمضي بالتفاصيل قدما، فإنها تعوّل على ترتيب الخطوات المتزامنة بحيث يتحقق لها أن تحصل على المال مقابل أن توقف عمليات التخصيب.
عمليا تكون إيران قد حصلت في مقابل كعكتها الصفراء على كل ما تريد الحصول عليه من رفع العقوبات التي كلفتها نحو 100 مليار دولار حتى الآن.
بايدن سيأخذ تلك الكعكة ويدفع 100 مليار دولار! بل أكثر مقابل اتفاق دائم.
سوف يحصل بايدن فوق ذلك على ميليشيات تزعزع الاستقرار في كل المنطقة. ويحصل على أن نفوذ الولايات المتحدة في المنطقة وجوارها بات تحت سطوة كل أنماط التهديدات الأخرى.
سوف تقدم إيران ضمانات للولايات المتحدة وإسرائيل وللاتحاد الأوروبي بأن برنامجها الصاروخي لن يشكل تهديدا لهذه الأطراف. بمعنى أن يبقى التهديد قائما ضد دول المنطقة الأخرى. وسيقول الإيرانيون لنظرائهم هذا مفيد لكم لكي تبيعوا أسلحة لهذه الدول.
ويمكن لطهران أن تقدم تعهدا بأنها ستوقف نشاطات خلاياها الإرهابية في أوروبا، بل ويمكن أن تطلق سراح رعاياها الذين تتخذهم رهائن. ولكن ذلك لن يوقف أعمال القتل والاغتيالات التي تمارسها ميليشياتها في العراق، ولا صواريخ الحوثي ضد السعودية، ولا عمليات التدمير في سوريا، ولا تخريب لبنان، فهذه “خصوصيات” مصالح أخرى.
بالإجمال يمكن لإيران أن تقدم تسويات بالتفاوض على مصير هذه الدول مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي فتكون هي الوكيل العام لمصالح هذين الطرفين.
كل ما تريده في المقابل هو المال، هو رفع العقوبات لكي تواصل تصدير الإرهاب والجرائم إلى محيطها بالذات.
دولة العصابة في طهران لا تعادي الولايات المتحدة ولا إسرائيل ولا الاتحاد الأوروبي. إنها تعادي دول المنطقة وتسعى إلى دمارها وتخريبها لأسباب أيديولوجية وطائفية. وهذه الأسباب لا تخص إسرائيل ولا الولايات المتحدة ولا أوروبا. لا يوجد سُنة هناك. فلماذا التعادي؟
بالنسبة إلى هذه الأطراف فإن النظر إلى إيران على أنها “تهديد نووي” هو نفسه نظر زائف لأن امتلاك قنبلة نووية لا يعني شيئا في الواقع.
تعرف إيران مسبقا أن هذا النوع من الأسلحة غير قابل للاستخدام. وهناك في مقابله قنابل تعني دمارا شاملا لإيران نفسها. فلماذا التعادي؟
الانشغال بتهديد وهمي وترك التهديدات الحقيقية هو المشكلة لمن يقع التعادي عليهم وحدهم.
بايدن ونظراؤه الأوروبيون ينظرون إلى دولة العصابة في إيران على أنها صفقات إعادة بناء وتجارة من كل نوع وذلك في مقابل تجارة أسلحة على الطرف الآخر.
هم يعتبرون ذلك صفقة ناجحة على الوجهين. منشار “طالع واكل، نازل واكل”. إنما على غصن منطقة تعرف ماذا يمكنها أن تفعل لتدافع عن مصالحها وخياراتها الإستراتيجية.
سوف ترفض الصفقة وتقول لصاحبها “يا غبي، كان عليك أن تجلس على الطرف الآخر من الغصن”.