علي الصراف يكتب:
محمد بن سلمان ونقيق ضفادع جو بايدن
هب جدلا أن الأمير محمد بن سلمان وافق على قتل جمال خاشقجي. وهب جدلا أن الافتراضات التي قامت على “الاعتقاد” و”الظن” في تقرير وكالة المخابرات المركزية عن تلك الحادثة، كانت يقينا ثابتا ولا تنقصه الأدلة. ولكن لا جدال في جملة من الحقائق التالية:
1 ـ السعودية أقرت أن ما حصل كان جريمة بشعة.
2 ـ حاكمت الذين نفذوا الجريمة.
3 ـ أعلنت التزامها القاطع بأن عملا من هذا النوع لن يتكرر، واتخذت التدابير التنظيمية الواجبة لذلك.
4 ـ أجرت سلسلة من التغييرات في جهازها الأمني.
5 ـ تحمل الأمير محمد بن سلمان المسؤولية السياسية والمعنوية عما حصل.
6 ـ استرضت أسرة الضحية بكل ما أمكن للاسترضاء أن يكون.
7 ـ تحملت بتواضع وصبر كل الهجمات الإعلامية والتحريض السياسي ضدها، في نوع من الإقرار الضمني بأن ما حصل ما كان يجب أن يحصل.
الآن، قل لي: هل توجد دولة واحدة في العالم فعلت ذلك كله ردا على جريمة واحدة؟
لقد ارتكبت وكالة المخابرات المركزية من الجرائم البشعة ما لا حصر له، ضد المئات، وربما الآلاف من الأبرياء، ولم تعتذر عن أيّ جريمة. وعندما أرادت أن تمارس أعمالها البشعة ضد متهمين بالإرهاب، على أساس الشبهات، كانت تقوم بخطفهم من الشوارع، وتحتجزهم في أماكن لا تكون لهم فيها أيّ حقوق، وتنفذ أعمال تعذيب وحشية ضدهم، وتقتلهم وترمي بجثثهم في أماكن مجهولة. أو قد تُحلّق بهم في طائرات كانت بمثابة سجون، لكي لا ينكشف ما تقوم به.
وهناك الآلاف من الأدلة التي تثبت تورط وزير الدفاع الأميركي السابق دونالد رامسفيلد بأنه “وافق” على كل الجرائم التي كانت ترتكبها القوات الأميركية في سجن “أبوغريب” لدى غزو العراق. ولم تقم الولايات المتحدة بمحاكمة ضابط رفيع واحد، وألقت بالمسؤولية على مجندين صغار، فحسب. وسجلّ الجرائم التي ارتكبت في هذا السجن من البشاعة بحيث أنه يكفي ليكون متحفا واسع الأدلة والمعاني على الانحطاط البشري بأسوأ صوره.
ليس هذا فحسب. إذ ارتكبت القوات الأميركية تحت عهدة رامسفيلد وديك تشيني والرئيس جورج بوش، من جرائم القتل العشوائي وأعمال الاغتصاب والنهب ما لا حصر له.
ليس هذا فحسب. إذ شنت هجمات بأسلحة محرمة وهدمت عشرات الآلاف من المنازل على رؤوس ساكنيها حتى تحولت مدينة مثل الفلوجة إلى نموذج صارخ للوحشية.
ليس هذا فحسب، فعدا عن أن الولايات المتحدة شنت غزو العام 2003 على أكاذيب وأباطيل، كان الكل يعرف أنها أكاذيب وأباطيل عن أسلحة دمار شامل لا وجود لها، فإنها سلمت بلدا وشعبا بأسره ليكون رهينة عصابات مجرمين وتكفلت بالتغطية عليهم وعلى جرائمهم وفسادهم إلى يومنا هذا، وهي ترى ما يفعلون مفتوحة العينين، حتى انقلبوا عليها لخدمة وليّ آخر، وهي مفتوحة العينين أيضا. ولم تجرؤ على كشف حسابهم، لأنهم سيجرؤون على كشف حسابها أيضا. وظلا، مثل داعرين يكره أحدهما الآخر، ويستر أحدهما على الآخر. (والنكتة في ذلك، أن نوري المالكي يريد العودة إلى رئاسة الوزراء، لأنه “صديق” جو بايدن، ويستطيع التوسط بينه وبين إيران).
وليس هذا فحسب. إذ أن وكالة المخابرات المركزية ما تزال إلى يومنا هذا تمارس أعمال الخطف والتعذيب والقتل ضد متهمين بالإرهاب، أو مشتبه بهم، وسجلاّتها ما تزال مليئة بالوحشية. ولكنها ظلت، تمارس نقيق الضفادع حيال قضايا حقوق الإنسان، دونما خجل ولا وجل، وكأن الناس لا يرون ما تفعل.
يستطيع الرئيس بايدن أن يظهر وكأنه ابن مؤسسة شريفة، وأن وكالة مخابراته المركزية طاهرة الطرف، وأنها لم ترتكب جرما إلا وحاسبت المسؤولين عنه. ولكنه يُدرك، بواسع المعرفة، أن هذا غير صحيح. يعرف تماما أن سجل وكالته بشع إلى درجة تكفي لإعداد موسوعات، تتجاوز بكثير كل ما سجله “قيصر” من جرائم وقعت في سوريا. حتى ليجوز التساؤل عما يمنع السعودية وغيرها من أن تمول مركزا لتوثيق ما ارتكبته تلك الوكالة، وتحوله إلى شاهد تاريخي على مستوى النفاق السائد في الولايات المتحدة على الأقل. بل وحتى لتكف مؤسسات النفاق الغربي عن توظيف قضايا حقوق الإنسان لحساب مصالح لا علاقة لها بأيّ إنسان.
المُلاحقة الظالمة ضد الأمير محمد بن سلمان تستمر ليس لأنه ارتكب خطيئة واحدة، بل لأنه رجل إصلاح وتغيير، يريد أن يوظف الموارد الاقتصادية المتاحة لكي يحافظ على مكانة المملكة كقوة اقتصادية كبرى، ليس في عالم النفط، بل في عالم الغد؛ عالم ما بعد النفط.
وهو يُلاحق لأنه رجل إصلاحات اجتماعية أيضا. فعلى الرغم من أن النفاق الغربي عن حقوق الإنسان والمساواة وحقوق المرأة يصدح في كل الأرجاء، فإن ما يقوم به الأمير محمد بن سلمان لا يروق لماكينة النفاق، لأنه يُفقدها واحدة من أدوات الضغط والابتزاز والترفع.
بل إنه يُلاحق، لأنه بدأ عهده بمكافحة الفساد في كل ركن من أركان الدولة. والفساد هو واحد من أهم وسائل الشركات الغربية في تمرير التعاقدات الكبرى، وهذا مما يُربك عليها وسائلها، ويحيط بالفشل محاولاتها الرامية إلى الفوز بعقود غير مُنصفة.
محمد بن سلمان قائد مُنتخب على أيّ حال. ووفقا لنظام “البيعة”، فإنه يملك الترخيص الشعبي لكي يؤدي دوره. وهو سيؤديه من دون أن يُرهبه تقرير قائم على “الاعتقاد” و”الظن”.
لا تريد السعودية أن تطوي صفحة علاقات تاريخية مع الولايات المتحدة تمتد إلى ثمانية عقود. لا تريد أن تقول لواشنطن إن نفوذها في المنطقة كله، انبنى على هذه العلاقات. ليس خجلا من شيء، بل احتراما لذلك التاريخ. ولكن ها نحن أمام طرف لا يخجل ولا يحترم شيئا.
ولو شاء الرئيس بايدن أن يطوي الصفحة، فليفعل. الأمة العربية برمّتها سوف تشكره على ذلك. لأنه سوف يخلصها من عبء أثبت أنه عبء زائد عن الحاجة فعلا.
يستطيع أن يذهب ليحاور علي خامنئي، وأن يرفع عنه العقوبات، وأن ينسى أنه في ليلة واحدة قتل أكثر من 1500 متظاهر سلمي كانوا يحتجون على طغيانه.
خامنئي يليق تماما ببايدن. يوازيه ويساويه، ويتوافق مع معاييره اللاأخلاقية في السياسة. وهناك سبب بسيط لذلك فكلاهما يمارس الابتزاز. وكلاهما ينافق. حتى لكأنهما ولدا ليلعبا في هذا الملعب.
بصراحة، محمد بن سلمان كثير على بايدن، ويحسن أن يتجاهله، وأن يواصل طريقه من دون أن يلتفت إلى نقيق ضفادعه.