علي الصراف يكتب:
الحرب ضد محمد بن سلمان
تستطيع قطر وتركيا أن تحتفلا بما تحقق حتى الآن في الحرب ضد ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان. فالحملة التي بدأت قبل جريمة قتل جمال خاشقجي، إذا كانت قد عثرت على ضالتها فيه من أجل صنع أطول فيلم رعب، وأطول محاكمة من دون أدلة، فإنها لن تتوقف، وعواقبها لن تنتهي.
إدارة الرئيس جو بايدن حتى وإن تردّدت في إيقاع عقوبات على الأمير محمد بن سلمان، إلا أنها ستظل تلاحق المملكة بمطالب غير مشروعة ومبالغ فيها، لتظهر بمظهر المدافع عن حقوق الإنسان، إنما لتُنفّس عن شيء آخر.
كل كلمة نطقها الرئيس بايدن تجاه السعودية، وكل كلمة سيقولها في المستقبل، تدل على موقف عدائي مسبق، صادر عن حملة شعواء تتعرض لها المملكة منذ عدة سنوات في الولايات المتحدة، وتحديدا منذ أن أُطلق مشروع “الشرق الأوسط الجديد” الذي قصد أن يضع المنطقة تحت رماد الحريق، في حروب أهلية تقودها جماعة الإخوان المسلمين؛ مشروع تموّله قطر، ويدعمه الديمقراطيون في الولايات المتحدة وبعض أعتى عتاة اليمين، لينتهي إلى تمزيق دول المنطقة، ومن بينها السعودية التي كان يتعيّن أن تنقسم إلى ثلاث دول (إحداها موالية لقطر!).
تلك الحملة تحولت إلى حرب معلنة منذ أن بدأت المقاطعة العربية ضد قطر، فتجنّدت من أجلها مراكز علاقات عامة، ولوبيات للتأثير داخل الكونغرس وخارجه، وفي مختلف وسائل الإعلام.
بايدن، حتى بعد أن أصبح رئيسا، فإن ظله ما يزال يحوم في ممرات الكونغرس، ويتأثر بمجموعات الضغط التي تفعل فعلها فيه.
لا يغرب عن أحد أن الحرب ضد الأمير محمد بن سلمان هي حرب ضد السعودية أصلا، وليس فقط ضد ملك المستقبل.
هذه القوة الإقليمية الكبرى، كان مطلوبا لها أن تتحطم، وفقا للإستراتيجية التي تبنتها قطر قبل المقاطعة. وهي لجأت إلى التصعيد من بعدها، ليس بدافع العزة بالإثم فقط، وإنما بدافع من الاعتقاد بأن السعودية هي العائق الأكبر أمام تحول قطر إلى دولة عظمى. لتكون بذلك هي العدو الذي يتعيّن أن ينكسر ليفتح أمامها الطريق.
صعود محمد بن سلمان أطلق كل صفارات الإنذار في الدوحة، لأنه أنطوى على مشروع إصلاحي ضخم، ما يزال من شأنه أن يرسي قوة المملكة الاقتصادية على أسس تواكب المتغيرات في الاقتصاد العالمي؛ اقتصاد ما بعد النفط. وهو ما يعني أن “العقدة”، من وجهة نظر “الدولة العظمى” المؤجلة، ستظل عقدة، بل تزداد صلابة.
أصلا، كل قصة الحريات وحقوق الإنسان والدفاع عن الرأي، ما كانت موجهة إلى أحد بمقدار ما كانت موجهة إلى السعودية بالذات. هي بيت القصيد.
القطريون يعرفون، بحكم العِشرة، أن أي اضطراب أو خروج عن السياق العام، لا يواجه في السعودية إلا بيد من حديد. وفي عالم يصدح، ويردح، بقضايا حقوق الإنسان، بتجريد عجيب عن مقوماتها الاجتماعية، فإن “اليد الحديد” غالبا ما تثير نقمة خارجية أشد، مما يفاقم الاضطراب نفسه.
هذه الدائرة، لا ينقصها إلا حملة إعلامية ولوبيات، لكي تتحول إلى حرب تستمر حتى تنقضي أغراضها.
اليد الحديد “ثقافة” مطلقة لدى المؤسسة الأمنية السعودية؛ شيء لا نقاش فيه، ولا يحتاج إلى أوامر من أحد أصلا. لا يوجد سر في ذلك. حتى جاء خاشقجي ليكون هو الضحية، فأصبح هو بطل ذلك الفيلم. وليكون هو الفيلم الوحيد الذي يتواصل عرضه على كل الشاشات من دون نهاية. ومن ثم ليكون مسلسلا أبديا يتعيّن أن يُلقي بظلاله على مشاريع وخطط “ملك المستقبل” على امتداد الخمسين عاما المقبلة.
الآن، صار بايدن يطالب باتخاذ إجراءات بعدم المساس بالمعارضة وإطلاق سراح النشطاء الذين يهاجمون سياسات نظامهم. بل ويطالب أيضا بتفكيك قوات التدخل السريع التابعة لولي العهد، وإجراء تغييرات عميقة في المؤسسة الأمنية تجعلها تقبل التعامل مع المعارضة السياسية كحزب يمتلك حقوقا لا يمكن المساس بها. أما المؤسسة الدينية، ومن قبلها التقاليد والأعراف الاجتماعية، فإنها يتعين في النهاية أن تتقبّل الدعوات لإقامة حفلات رقص في الكعبة، واحترام حقوق المثليين، انطلاقا من قواعد التعددية وحق التعبير عن “الرأي”.
هذه حرب حقيقية ضد الاستقرار وما هو أبعد، وليس ضد الأمير محمد بن سلمان. إذ ما من أحد يأخذه الهوى، فيريد أن يشارك في بطولة المسلسل، إلا وستكون ملاحقته قصة بعنوان خاشقجي - 2، وخاشقجي - 3.
كرة الثلج التي حولتها قطر إلى قنبلة، تكبر الآن، من دون أن يبدو أن للدوحة دورا فيها. رمت الفتنة، واتخذت مقعدا جانبيا لترى كيف تفعل فعلها. جنّدت من الإمكانيات ما لم تجنده دولة ضد دولة لتشويه صورتها، ولتحويل العداء ضدها إلى عداء أعمى لا يستطيع حتى أن ينظر في طبيعة القيم والمعايير الاجتماعية المختلفة، ولا في المقومات الثقافية والتاريخية والدينية التي تجعل من المجتمع السعودي شيئا لا يستطيع أن يشبه المجتمع السويدي.
حتى صار يجب أن تكون هناك “معارضة” في السعودية، وأن تكون محترمة. ولكن ليس كأي معارضة أخرى، وإنما معارضة محمية تحت وطأة شبح المسلسل.
الإيرانيون في الجوار يعدمون معارضيهم، ويغتالون نشطاء سياسيين في العراق كل يوم. إنما من دون شبح. وحكومة أردوغان تقمع المعارضة كل يوم، حتى لم يعد بوسع زعيمها أن ينطق بالمساءلة إلا ويتعرض للتهديد بالمحاكمة، وغيره يُسجن باتهامات بالإرهاب، إنما من دون شبح أيضا.
لقد أثبتت الإدارة السعودية أنها صبورة، ومتأنية، ويأخذها التسامح، والقدرة على الاستيعاب في العلاقة مع الولايات المتحدة. وفعلت الشيء نفسه مع قطر وسلطة أردوغان، بل وحتى مع إيران نفسها أيضا. ثم آثرت أن تقدم الأهم على المهم دائما.
القنبلة التي تتفجر الآن بين يدي الأمير محمد بن سلمان، تقصد أن تتفجر ضد مشروعه الإصلاحي. الخمسون عاما المقبلة هي الهدف.
إنها حرب تستولد استمرارها من العاقبة التي تليها عاقبة أشد ثقلا.
شيء بارع تماما. ويجدر بالمرء أن يوجّه التهنئة لكل من صنعوا هذا المسلسل. إذ نجحوا في تحويل جريمة ضد شخص واحد، إلى جريمة مضادة لا تنتهي أبدا.