مختار الدبابي يكتب:

الربيع العربي 2 أم خريف الغنوشي

أطلقت تظاهرة السبت الماضي، التي استنفرت لها حركة النهضة أنصارها من مختلف المحافظات، وكذلك كلمة رئيس الحركة راشد الغنوشي بالمناسبة، مجموعة من الرسائل للداخل والخارج لإظهار أن “النهضة” لا تزال قوية عدديا، وأنها قادرة على الاستعراض، لكن تلك الرسائل ارتدت في جوانب منها إلى خسارات على المديين القريب والبعيد.

الرسالة الأولى المخفية في ثنايا التحشيد هي أن النهضة شعرت بأنها تحرّرت من مرحلة صعبة جدا بسقوط الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب الذي قوّى وجوده في الرئاسة لأربع سنوات الحلف المضاد للإسلاميين في المنطقة، وكانوا يشعرون في كل لحظة بأن يد السيناريو المصري (سقوط الإخوان في 2013 وحكم السيسي) يمكن أن تمتد لهم وتخنقهم.

ولم يخف الغنوشي في كلمته استبشاره بـ”الرياح” الجديدة وسقوط “الشعبوية”، في رسالة استعراضية هدفها إظهار قوته للخارج، ومحاولة إحياء مناخ ربيع عربي 2 مدعوم من الديمقراطيين في واشنطن، مع استلام جو بايدن الذي يروّج الإسلاميون العرب إلى أنه صديقهم وسيكون إلى جانبهم.

والأهم في ذلك أن بايدن سيضغط على خصومهم ويدفعهم إلى التراجع في مواقع سيطرة الإسلاميين مثل ليبيا وتونس واليمن، وهذا شيء لا يخفونه، ويجمعون كل التفاصيل والأخبار والتسريبات لتأكيده، وهو ما يكشفه استبشار أنصارهم على مواقع التواصل الاجتماعي بالضغوط التي تمارس على السعودية واستهداف ولي العهد الأمير محمد بن سلمان.

والوجه الآخر للرسالة أن الإسلاميين لم يعودوا يخفون استقواءهم بالخارج، وبالأميركيين على وجه الخصوص، للبقاء في السلطة، وأن ما جاء في كتاب هيلاري كلينتون بشأن العلاقة مع الإسلاميين ليس تلبيسا ولا مؤامرة، ما يعطي مشروعية لكل الكتابات التي تحفر في تاريخ الجماعة الأم وارتباطها ببريطانيا.

الرسالة الثانية كانت موجّهة للداخل التونسي، ولكل الخصوم واستطلاعات الرأي عن تراجع شعبية الإسلاميين في مقابل صعود شعبية الرئيس قيس سعيد وعبير موسي. صحيح أن النهضة أظهرت أنها قوية، وربما أظهرت أن الاستطلاعات موجهة ولا تعبر عن الحقيقة، لكن تظاهرة السبت أحيت مخاوف قوى في الداخل كانت النهضة سعت إلى طمأنتها تحت عنوان “الإسلام الديمقراطي”.

استدعى التحشيد والاستنفار والعودة إلى خطاب “الفرقة الناجية”، المهددة في وجودها، الوجه القديم للنهضة قبل 1990، أي الحركة الإسلامية العقائدية التي تريد أن تحكم “المجتمع الضال” و”الجاهلي” بقيم الإسلام، والتي لا يتورع بعض عناصرها عن تكفير الخصوم واستهدافهم بالتفجيرات ورش ماء النار على وجوههم وتقييد البعض وإشعال النيران في جسده.

إلى الآن يتبرأ الإسلاميون من هذا الماضي ويسعون إلى إخفائه ومنع استدعائه في النقاش بشأن تبنيهم لقيم المدنية والديمقراطية، لكن تصريحات بعض المستقيلين من القيادات البارزة تكشف أن الأمر حقيقة، وأن “النهضة” لم تغادر بعد مربع الجماعة العقائدية التي تنظر إلى نفسها كمكلفة من الله سبحانه بإنقاذ الناس وهدايتهم، وليس كما تقول الآن من أنها حزب مدني قابل بالشراكة في الحكم بالحد الأدنى، وأنه تخلى عن مطالب الشريعة، ولم يعد وصيا على أفكار الناس وسلوكياتهم.

لقد أعادت تظاهرة السبت النهضة ثلاثة أو أربعة عقود إلى الوراء، ولن تجد أي هامش للمناورة أو التبرؤ من رمزية التحرّك الكبير ودلالاته، خاصة أن الغنوشي هو من خطب بالمناسبة وسعى إلى استدعاء صورة الجماعة وإحيائها متجاهلا المخاطر التي تحفّ بها سياسيا وأمنيا وصحيا.

من باب المناكفة والرد على اتهامات بتراجع شعبية النهضة استجمع الغنوشي كل قوى النهضة ودفع بها إلى الشارع غير عابئ بالأوضاع الصحية، خاصة أن تلاصق أجساد الآلاف قد يضاعف أعداد المصابين مرات ومرات بفايروس كورونا، وفتح باب السؤال إن كان الحزب، الذي لا يملك نفسه عند المزايدات، قادرا على حكم تونس ونيل ثقة الخارج وثقة قوى الدولة العميقة (من رجال مال وأعمال وكوادر أمنية وعسكرية) ليستمر في ترشيح نفسه لقيادة البلاد كـ”قوة وسطية” مستقبلية قادرة على خلافة الدور الذي كان يلعبه “الدساترة” الذين حكموا البلاد منذ 1956 بعد أن خاضوا مهمّة الاستقلال لعقود.

واعتبر متابعون للشأن التونسي أن استعراض حركة النهضة في الشارع تحت يافطة حماية “المؤسسات الشرعية” أعاد إلى الأذهان صورة مصر في 2013، وخروج الإخوان بالآلاف في مصر واعتصامهم في الميادين تحت عنوان حماية “الشرعية” وما أدى إليه هذا التحشيد من مواجهات وعنف واعتقالات ومحاكامات، أي التمهيد للدفع بالبلاد إلى السيناريو المصري، وهي التي تعيش على ضوء أزمة اقتصادية واجتماعية حادة.

كما أن التحشيد، والتهديد الرمزي، واستعادة شعارات الدفاع عن الشهداء والشرعية، كلها عناصر لن تبرّئ النهضة من تحمّل المسؤولية في ما وصلت إليه البلاد من أزمات خلال العشرية الماضية، فقد كانت الطرف الأكثر وزنا في الحكم، والأكثر قدرة على المناورة. وهي مناورة للأسف لم تقد إلى الاستقرار وطمأنة مختلف الفرقاء على سهولة العيش المشترك، ولكن خلقت حالة من الصراع لا أحد يقدر على وقفها، وكأنما الهدف منها هو الحفاظ على وضعية لا غالب ولا مغلوب واستمرار النهضة في إدارة اللعبة لمنع انكشاف حقيقة الطبقة السياسية الجديدة وغياب البدائل لديها لقيادة البلاد.

لم تضرب تظاهرة السبت صورة النهضة كحزب حاكم مستقبلي فقط، لكن الضربة الأهم هي التي طالت صورة الغنوشي الذي لم يكفّ منذ عودته في 2011 عن تقديم نفسه كـ”حكيم” و”منقذ” ورجل قادر على التجميع والتنازل لأجل مصلحة تونس.

مسيرة السبت قالت العكس تماما، وظهر الغنوشي كزعيم راغب في السلطة ومهدد باللجوء إلى الشارع لإسكات الخصوم الذين خطط بعضهم لسحب الثقة من رئاسته للبرلمان عن طريق آلية الديمقراطية، ولرئيس الجمهورية الذي يحاول توظيف الفصول الدستورية والتأويلات والمخارج القانونية للحصول على صلاحيات أوسع، والحد من صلاحيات رئيس الحكومة والبرلمان، ضمن اللعبة الديمقراطية.

“الحزب الكبير”، والغنوشي “الحكيم” بدل أن يديرا اللعبة ضمن “تخريجات “الدستور والقانون نزلا إلى الشارع للتهديد، والرسالة تحمل أكثر من دلالة على أن الصراع الديمقراطي قد يتحوّل إلى صراع بنوع آخر يعتمد الحسم فيه على القوة، وليس على صناديق الاقتراع، ولذلك فإن “ربيع” الغنوشي الذي يريد أن يدفع بنسخته الثانية إلى الواجهة مستفيدا من صعود الديمقراطيين في واشنطن، قد يتحول إلى خريف لحركة النهضة وللغنوشي ذاته.

أطاحت المظاهرة الكبرى بكل خطط الغنوشي ومشاريعه في التحول إلى رقم أول في اللعبة السياسية. فقد زادت الاستقالات والخلافات الداخلية في حركة النهضة، كما لم يكسب ثقة اليسار ولا الوسط، ولا خصومه من الإسلاميين، وسقط أكبر رهاناته في استيعاب مراكز القوى الماسكة بالبلاد.. أو ما يعرف بالدولة العميقة.

هل مازالت القوى الدستورية، التي لا يزال جزء كبير منها متردّدا في حسم أمره، تقدر على الاطمئنان لأفكار الغنوشي عن “المصالحة الوطنية” بعد خطاب التخويف والتهديد بحسم الصراع باللجوء إلى الشارع والترويج لخطاب التعالي وامتلاك الحقيقة؟