سالم الكتبي يكتب:
الإمارات والسعودية: قصص صحافية مثيرة
قصص صحافية عديدة مثيرة تابعتها الأيام الماضية حول “خلافات” و”توترات” و”أزمة صامتة” تخيّم على فضاء العلاقات الإماراتية – السعودية، وهي قصص يصعب على أي مراقب للشأن الخليجي تجاهلها حتى وإن كانت غير دقيقة ولا تعبر عن الواقع الفعلي لعلاقات البلدين الشقيقين، خصوصا أن هذه التقارير تثير نقاطا عدة للنقاش في مقدمتها مساحات التطابق والاختلاف في وجهات نظر الدول مهما كانت مستويات تقاربها الاستراتيجي.
العلاقات الدولية المعاصرة لم تعد تحتمل العبارة التقليدية المكررة التي طالما تزينّت بها البيانات الرسمية الصادرة عن أي اجتماعات تعقد على مستويات رفيعة بين الدول العربية أو الخليجية، وهي العبارة التي تؤكد على “التطابق التام في وجهات نظر البلدين”؛ فالحقيقة أن هذا التطابق المزعوم لم يعد قائما بحكم تعقد وتشابك وتداخل المصالح الاستراتيجية للدول، وبما يجعل من فكرة التماهي التام بين هذه المصالح مجرد فكرة عبثية لا اعتقد أنها قابلة للتحقق، بل لا اعتقد كذلك أنها كانت محققة في الماضي من الأساس، أو على الأقل بدرجة 100 في المئة وفقا لما توحي به كلمة “التام” من معان!
هناك تجارب ثرية للدبلوماسيتين الإماراتية والسعودية تعكس تخلصهما من بعض موروثات الماضي وتعاملاتهما مع الحقائق والواقع بشكل أكثر شفافية ومكاشفة ليس فقط لأنه بات من الصعب إخفاء الحقائق وإبقاء أي خلافات مهما كانت صغيرة وراء الكواليس، ولكن لأن الدبلوماسية باتت تعمل وفق آليات تناسب عصرها، ولا ترى في الحديث عن تباينات أو حتى خلافات في وجهات النظر مسألة كارثية تقلل من قوة ومتانة العلاقات الثنائية بين أي دولتين، لاسيما إذا كانت هذه العلاقات تتكئ على روابط وركائز ومصالح واتفاقيات شراكة استراتيجية مدروسة تفوق في قوتها بمراحل أي أثر محتمل لخلاف عابر في وجهات النظر حول هذه أو تلك من القضايا والموضوعات المشتركة.
بالطبع، لا أقصد بهذه المقدمة الإقرار بوجود أي خلاف في العلاقات الإماراتية – السعودية، سواء لأن موقعي كمراقب لا يسمح لي بتأكيد أو نفي مثل هذه التكهنات والتقارير، بالإضافة إلى أن التركيز على التقارير القائلة بوجود مثل هذا الخلاف من جانب وسائل إعلام معيّنة ومعروفة الاتجاهات والتوجهات بما يكشف عن محاولات حثيثة للنفخ في نار الوقيعة والسعي لإشعال فتنة بين دولتين شقيقتين طالما كان التحالف بينهما طوق إنقاذ لأزمات منطقتنا العربية في السنوات الأخيرة، وفي عالم السياسة يدرك الجميع أن تفكيك التحالفات بين “الاطفائيين” في منطقة ما تعاني انتشارا لنيران الأزمات هو أحد أهداف مشعلي الحرائق وناشري الفتن.
وإذا كانت بعض وسائل الإعلام قد ذهبت إلى حد الزعم بوجود تباعد في المصالح الاستراتيجية بين دولة الإمارات والمملكة العربية السعودية، على خلفية تباين وجهات النظر حول قضايا وملفات مثل إنتاج النفط واليمن والتطبيع مع إسرائيل وحتى طريقة التعامل مع جائحة كورونا، فإن النظر بموضوعية إلى ما يحدث لا يدع مجالا للتفسير والتحليل لأنه ـ على سبيل المثال ـ مسألة مثل قوائم الدول الخاصة بالسفر خلال فترات تفشي الجائحة تشهد تغيرات سريعة وطبيعية بحكم إدراك كل دولة للأوضاع الصحية داخلها وخارجها، وبالتالي هي قرارات مهنية لا علاقة لها بالسياسة على الأقل في منطقتنا، التي لا تشهد صراعات قطبية بين الكبار كما هو الحال بين الصين والولايات المتحدة مثلا!
الواضح أن “الشرارة” التي أطلقت العنان لتقارير إعلامية كثيرة تروج لفكرة الخلاف بين الدولتين هي تباين وجهتي نظر البلدين حيال اتفاق منظمة “أوبك” بشأن الحصص الإنتاجية للدول الأعضاء، حيث وفر هذا الموقف فرصة لبناء “قصة إخبارية” أضيفت إليها بعناية بعض “التوابل” الأخرى مثل موقف البلدين في اليمن، والعلاقة مع إيران، بدعوى أن الإمارات تتبنى موقفا أكثر انفتاحا تجاه إيران، رغم أن الشواهد الرسمية تشير إلى أن الرياض وطهران قد أقرتا رسميا بوجود محادثات استكشافية بينهما!
والحقيقة أنه يصعب الإمساك بكل ملف من الملفات التي يضعها البعض داخل دائرة “الخلاف” بين الرياض وأبوظبي ومناقشة ما يثار بشأنه بموضوعية غائبة من الأساس في مثل هذه النقاشات العبثية التي لا تستند إلى معلومات بقدر ما تهدف إلى الترويج لقصص إخبارية مثيرة بشكل تقف وراءه دوافع مهنية تنافسية أحيانا ونوايا سيئة في أغلب الأحيان!
المؤكد في الأمر كلّه أن الدبلوماسيتين الإماراتية والسعودية، اكتسبتا مرونة وديناميكية كبيرة في السنوات الأخيرة، وبات بإمكانهما الاحتفاظ بخصوصية العلاقات الأخوية والشراكة الاستراتيجية القائمة بمعزل عن أي متغيرات تكتيكية عابرة قد يعتقد البعض أنها ستؤثر حتما في أجواء العلاقات، وبمعنى آخر، لم تعد علاقات البلدين تتقدم أو تتأخر بفعل موقف ما أو تحرك عابر هنا أو هناك لأن هناك اتفاقا مسبقا حول الأطر الاستراتيجية الحاكمة لعلاقات البلدين الشقيقين، بحيث لم يعد الأمر متروكا للظروف وتقلبات السياسة.
والحقيقة كذلك أنه في ظل الطموح التنموي الهائل للاقتصادين الإماراتي والسعودي، من الوارد أن تلتقي المصالح ومن الوارد كذلك أن تتضارب، وهذا أمر بديهي في العلاقات الدولية المعاصرة، ويمكن أن يتم تجاوزه بالنقاشات، ولكن من الصعب أن يخلط البعض في تفسير مثل هذه المواقف ويربط بين السياسي والاقتصادي والعسكري وغير ذلك. وللمصداقية فإن التاريخ القريب يشهد بأن التباينات خصوصا الاقتصادية قد تحدث أحيانا بين الرياض وأبوظبي ولكنها لا تُحدث قطيعة بين البلدين، لأن هناك تفاهما على أن مصالح البلدين والشعبين الشقيقين أكبر من أي اختلاف في وجهات النظر، لاسيما بعد اختلاط دماء الشهداء على أرض اليمن الشقيق دفاعا عن أمن واستقرار ومصالح جميع شعوب دول مجلس التعاون، فلا شك أن ما ربط البلدين والشعبين في السنوات الأخيرة يزيد علاقاتها رسوخا ومتانة وثباتا بغض النظر عما قد يراه الآخرون محطة للقطيعة والشقاق.
الإماراتي سيبقى سعوديا والسعودي سيبقى إماراتيا لأن هذا هو الرباط الفعلي الأقدس وهو الحصن الحصين الذي يتجاوز الحسابات التقليدية في النظر إلى العلاقات الثنائية بين الدول والشعوب.