محمد خلفان يكتب:

جندي تونسي للغنوشي: أقسمنا أن ندافع عن الوطن

خيَّب جندي تونسي كان يقوم بمهمة حراسة مدخل البرلمان ظن راشد الغنوشي، زعيم حركة النهضة الإخوانية. حاول الغنوشي التلاعب بمفردات الهوية الثقافية التونسية مستخدما "بهلوانيته" السياسية في إقناع الجندي بأن الجيش حامي الحمى والدين. وجاء رد الجندي التونسي بمثابة ضربة دستورية قاضية، ليس للغنوشي فحسب، وإنما لكل من يحمل فكر تنظيم الإخوان المسلمين في كل الدول العربية، حيث قال"نحن أقسمنا على الدفاع عن الوطن".

يستدعي ردّ الجندي التونسي العفوي والبسيط في مفرداته التفكير في حجم معاناة الدولة الوطنية ومفهوم المواطنة منذ بدايات الاستقلال للدولة العربية من الاستعمار الغربي، حيث برزت الأفكار السياسية وبدأ استقطاب الولاءات.

بعض تلك الأفكار كانت ضيقة وصلت إلى درجة اختصار مفهوم الوطن في جماعة وتقديم مصلحة حزب أو طائفة على الدولة، كما حدث مع كل تيارات الإسلام السياسي بمختلف أشكالها ومشاربها الفكرية وتفرعاتها المذهبية، بل واختزلت الحقيقة السياسية والدينية في تلك التيارات إلى درجة تصل حدّ الاتهام بالخروج عن الجماعة (إن لم تكن معنا لست منا).

بعض تلك الانتماءات والولاءات وسّعت دائرة الاتهامات لتتعدى حدود الدولة الوطنية وصنفت من يرفضها بالخيانة العظمى، مثل القوميين العرب والبعثيين ومعهم باقي الأفكار الشمولية مثل الإخوان المسلمين الذين لا يعترفون بالحدود الجغرافية.

وأمام هذه الانتماءات والولاءات والأفكار عجز الوطن بمفهومه الحقيقي عن القيام بمسؤولياته والاهتمام بأولوياته، فمرة تتقدم العاطفة الدينية قائمة الأولويات، ومرة أخرى ينادي البعض بالأمة الإسلامية على حساب الوطن، لتضيع مكونات الدولة الأساسية، وتصبح أولوياتها خدمة الأجندات الفكرية وأهداف الجماعات على حساب الأوطان.

قصة تغييب الوطن والمواطنة في عالمنا العربي منذ ستينات القرن الماضي وحتى يومنا هذا معقدة ولا يمكن سردها في مقال يناقش موقفا طارئا.

هناك رسالة ينبغي على كل من اعتاد استغفال الإنسان العربي مستخدما مفردات سياسية أو دينية وفي أوقات أخرى طائفية استيعابها. الرسالة بيّنت للجميع أن زمن الاستغفال قد ولى غير مأسوف عليه، وأن الجهود السياسية الوطنية المبذولة، منذ فشل مشروع الربيع العربي بانطلاق ثورة 30 يونيو 2014 في مصر، نجحت في ترسيخ مفهوم الدولة الوطنية كما عرفها المفكرون الذين آمنوا بأن الوطن خط أحمر أمام أي انتماء آخر.

الأفكار التي تعيد صياغة مفهوم الدولة الوطنية بدأت تؤتي ثمارها، خاصة في منطقة الخليج وفي مصر، لأنهما أكثر من عانى من الأفكار العابرة للحدود بسبب حالة التسامح والتعايش التي تعاملوا بها مع الجميع. إلا أن قوة المجتمع وتماسكه مع قيادته كانا أكثر صلابة، لذا كانت تأثيرات تلك الأفكار ضعيفة، فهي تخالف طبيعة إنسانها القائمة على التعايش والبساطة.

عبارة "أقسمنا للوطن" رد لا يخلو من دلالة مجتمعية عربية بأن جميع الشعوب، بمختلف هوايتها الدينية والثقافية، لا تقبل أي انتماء غير الانتماء للوطن. وهو ما يعني البحث عن الاستقرار والتنمية وهو ما أثبت جدواه في الدول الخليجية، وفق ما يطلق عليه شرعية الإنجازات وليس المزايدات الوطنية، لهذا فإن كل من حاول استخدام هذه الخطابات كان مصيره الفشل لأن المجتمع أو الحاضنة الشعبية، كما يمكن تسميتها، ترفضه.

بدلا من استعراض الكثير من المواقف باعتبارها أمثلة حول بدء تمكين الدولة الوطنية في مواجهة تيارات الإسلام السياسي، بشقيها السني والشيعي، سواء كان ذلك في لبنان أو العراق أو مصر والجزائر واليمن وغيرها من الدول العربية، فإن رد الجندي التونسي لخص الموقف الشعبي أو القاعدة الشعبية التي كانت تتكئ عليها تلك التيارات، خاصة وأن موقف الرأي العام العربي من أصحاب هذه الأفكار ترجم بوضوح من خلال المظاهرات والاحتجاجات السلمية التي تنتشر في عدد من الدول العربية.

وجود الحاضنة الشعبية في المجتمعات العربية ساعد إلى حد كبير على استمرار تنظيم الإخوان المسلمين وحضوره في المشهد السياسي، خاصة مع وجود دعم من بعض الحكومات العربية ومن الحكومة التركية.

التأييد الشعبي لأي مشروع سياسي هو ما يوفر لهذا المشروع الأوكسجين الاجتماعي الذي يمد في عمره ويضمن استمراره، وبالتالي فإن فقدان هذا التأييد يعني باختصار: إعلان وفاة تنظيم الإخوان المسلمين.