محمد خلفان يكتب:

الدور الجديد للإمارات

حملت زيارة الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي الأسبوع الماضي إلى العاصمة النمساوية فيينا، أسئلة كثيرة لدى المراقبين حول مغزاها وأهميتها إلى دولة عرف عنها الهدوء السياسي رغم حالة الصخب والضجة التي يعيشها العالم وجواره الأوروبي، إلى درجة تعتقد أنها دولة لا تتفاعل في ما يحدث مع الخارج سوى بالفن والثقافة لولا ذلك الخبر المقتضب والخاص بالقرار المرتقب لتصنيف الإخوان المسلمين بأنهم جماعات إرهابية.

رغم أنه ليس من المهم الوصول إلى أجوبة نهائية أو حاسمة حول هدف الزيارة المفاجئة؛ بل المهمّ هو وضع الأسئلة المناسبة والاستفهامات المنطقية في محلها، من أجل التفكير بما تقوم به قيادة الإمارات في تحركاتها إلى مختلف دول العالم. وتبقى أهمية التساؤلات عندما تطرح في أمور بديهية، أو تلك التي يعتقد البعض أنها لا تحتاج إلى التساؤل، مثل هذه الزيارة التي لم تثر ضجة إعلامية كبيرة.

والبديهي في زيارة الشيخ محمد بن زايد إلى النمسا هو ذلك الحراك الدبلوماسي الإماراتي النشط والانفتاح على كل دول العالم، وبلا شك أن دولة مثل النمسا التي تقع وسط أوروبا ولديها تاريخها الثقافي والفني لا يمكن تجاهلها أو تجاوزها. وبالتالي فإن الإمارات مستمرة في كسب أصدقاء جدد وتكوين شراكات عالمية، ما يعني أن ما يصحّ في الانفتاح على الدول الكبرى وصاحبة التأثير في القرارات السياسية والاقتصادية يصحّ كذلك مع دول أخرى لها مكانتها في مجالات إنسانية.

لكن إذا أسقطنا تلك الزيارة الهادئة شكليا والعميقة في المغزى ضمن البديهيات الدبلوماسية من منطلق أنها أمر عادي، فمن الممكن أن نعطل متعة التساؤل والاستفهام والفضول الذي هو أساس البحث العلمي في معرفة التحرك الدبلوماسي، فنلجأ إلى بناء توقعات نمطية وتقليدية لكل زيارة دون التعمق وربط الأمور وفق الرؤية الكاملة لما تقوم به الإمارات على المستوى الإقليمي والدولي.

إن الهدف من كل هذه المقدمة النظرية الطويلة أن يجد المتابع الدقيق للتحركات الدبلوماسية الإماراتية لأكثر من عقد من الزمن أن هناك دورا جديدا ترسمه القيادة السياسية في دولة الإمارات على المستوى العالمي، وهو ما يجعلها محل انتقادات ورشق إعلامي مستمر لكن دون أن تتأثر أو تهتز ثقتها في الوصول إلى أهدافها وغاياتها خدمة للاستقرار والأمن الدوليين، سواء في محاربة تيارات الإسلام السياسي أينما وجدت، أو العمل على خلق بيئات للتعايش والتسامح الإنساني من خلال استضافة فعاليات تحقق ذلك، مثل استضافة العاصمة الإماراتية أبوظبي لحفل توقيع وثيقة الأخوة الإنسانية بين ممثلي أكبر ديانتين؛ الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر والبابا فرانسيس بابا الكنيسة الكاثوليكية.

تأثير الدبلوماسية الإماراتية تجده اليوم حاضرا في الملفات المهمة في العالم بعد أن أصبحت تدير الملفات الكبرى وتؤثر فيها وفرضت نفسها على دول فاعلة باتت ترى في الحضور الإماراتي أهمية كبرى

انطلق المشككون في قدرة الإمارات على التأثير في ملفات اعتبروها شبه محسومة لدى الغرب، مثل ما اتفقوا على تسميتها خلال (ما عرف بالربيع العربي) بقضايا الحريات والديمقراطية، مع أنها في الحقيقة لم تكن سوى “فوضى خلاقة” لتدمير استقرار المجتمعات، فهؤلاء انطلقوا من الفهم التقليدي في تشكيكهم لأدوات التأثير الدبلوماسي مثل: حجم الدولة جغرافيا، والكثافة السكانية، وأحيانا الإرث التاريخي، دون أن يعوا المتغيرات التي حصلت في النظام الدولي، ومنها دور القيادات السياسية في صناعة التأثير.

للأسف البعض، وهم كثر، لا يزالون مقتنعين بأن دور الدولة في الإقليم أو في العالم يعتمد في تحركها صعودا ونزولا على الحظ، أو هو نتيجة رغبة الآخرين في أن تكون لهذه الدولة أو تلك دور. وفي أحيان أخرى عليك الانتظار إلى حين تأتي الظروف الدولية التي تحيط بك لترسم لك دورا، وهذا أمر غير موجود في الرؤية السياسية لدولة الإمارات، فهي تصنع دورها في العالم من خلال المساهمة والدخول في الملفات التي لها علاقة باستقرار العالم وأمنه، وهو أسلوب جديد في الدفاع عن الأمن الوطني للدول، ففي عصر العولمة فإن الأزمات لم تعرف لها حدود.

حاولت بعض الحكومات الغربية في بداية الأمر رفض وجهة النظر الإماراتية تجاه قناعاتها في قضايا تهدد الاستقرار الدولي، والسبب حالة التشويش الإعلامي التي تقف وراءها بعض الحكومات وبعض التنظيمات المؤدلجة، التي تجد أن فشل الدور الإماراتي في القضاء على ما يثير الفوضى ودمار المجتمعات الإنسانية مصلحة لها. إلا أن إيمان أبناء الإمارات ومعهم أبناء المنطقة ظل قويا بصحة ما تقوم به قياداتهم برفضهم أي محاولة انتقاص أو تشويش، إلى أن بات العالم اليوم يبحث عن الرأي الإماراتي في القضايا الدولية في محاولة الاستفادة من تجربتها.

نحن الآن في مرحلة تمارس فيها الدبلوماسية الإماراتية دور التوجيه أو على الأقل دور مشاركة الدول الكبرى في صنع توجه سياسي عام في العالم يراعى فيها خدمة الإنسان والإنسانية دون البحث عن أي زعامة شكلية. كما أن الإمارات اليوم، باتت حالة دراسية عن كيفية صناعة المستقبل، وحالة دراسية أيضا لفهم أدوات التأثير في القرارات الدولية.

لقد اعتاد الناس على أن الدور السياسي للدول حالة طبيعية تفرضها مقومات معينة ودونها لا يمكن للدول أن يتحقق لها دور، بل إن البعض في لحظة صعود الدور الإماراتي الواقعي كانوا يضخمون دورهم وبصورة تبدو بشعة للتقليل من دور الإمارات، لكن الإمارات وفي كل مرة كانت تفاجئ من يحاول فرض العزلة عليها بطرق وأساليب غير متوقعة من خلال المناورات السياسية وتشبيك العلاقات مع دول العالم بعضها لم يكن متوقعا، مثل توقيع اتفاقية السلام الإبراهيمي مع إسرائيل.

اليوم تأثير الدبلوماسية الإماراتية تجده في الملفات المهمة في العالم العربي، وفي قارة آسيا، وأميركا اللاتينية وفي الغرب كله ولم تعد تنشغل بصغائر المشكلات وتفاهات البعض. فاليوم أصبحت تدير الملفات الكبرى وتؤثر فيها بعد أن أسست أرضية وقواعد لانطلاقتها الجديدة، وفرضت نفسها على الدول الكبرى التي باتت ترى في الحضور الإماراتي أهمية كبرى وأن غيابها أمر غير مبرر وغير مقبول.

قبل عقد من الزمن حاولت بعض الدول، ومنها الإدارة الأميركية في عهد الرئيس باراك أوباما، وبعض الحكومات الغربية إيقاف النشاط الدبلوماسي الإماراتي في مواجهة المخربين في العالم العربي في مصر وتونس وليبيا واليمن وغيرها من الدول. اليوم وبعد أن أدركت تلك الدول خطأ محاولات قادتها فإنهم يعملون لتنشيط الدور الإماراتي الدولي ويحاولون الاستفادة من رؤية الإمارات لتحقيق مصالحهم وحماية أمنهم.

هذا الوعي الدولي الجديد للدور الإماراتي في القضايا العالمية هو الذي يدفع بحكومات دول في إقليمنا وفي العالم مثل النمسا إلى طلب زيارة إلى دولة الإمارات أو دعوة قادتها لزيارتها من أجل الاستئناس بتجربتهم التنموية بعد كل تلك الانتقادات. ونكاد نجزم أنه مع قادم الأيام سوف تزداد الدبلوماسية الإماراتية نشاطا أكبر حول ملفات معينة في العالم.

لهذا، لا يجب عند تقييم تحرك دبلوماسي أو موقف سياسي لدولة الإمارات، الاكتفاء بالحدث الوقتي الظاهر (مع أنه تقييم صحيح) دون التركيز على مجمل الأمور والنظر إلى ما تقوم به القيادة السياسية من نشاط دبلوماسي بمنظور واسع.