كرم نعمة يكتب:

جلجامش لا يشارك الكاظمي الاحتفال

جلست أمام رئيس الهيئة العامة للآثار والتراث في العراق الدكتور مؤيد سعيد الدامرجي عام 1992، علّني أحصل على إجابة عن السؤال الأكثر الحاحا حينها في الصحافة الدولية، عمّا نهب ودمر من الآثار فيما البلاد تتلمس جروحها العميقة.

كنت أستخدم “لعبتي الصحافية” وأشير بطريقة أو بأخرى، إلى وجود “متنفّذين” مقربين من جهات عليا يساهمون في تهريب الآثار بعد الانهيار الذي عاشته مدن العراق.

تأمّل الدكتور سعيد سؤالي، بذكاء العارف، وقال دعني أروي لك ما حصل في يوم ما قبل سنوات. وقّع العراق في سبعينات القرن الماضي معاهدات تعاون اقتصادية وسياسية مع دولة أوروبية، توّجت تلك الاتفاقيات بزيارة رئيس تلك الدولة إلى البلاد للاحتفاء به، وكان يتطلب تقديم هدية رمزية له، خصوصا أن ذلك الرئيس كان ممن درسوا الآثار وحاصل على شهادة عليا في التاريخ، فكتبت رئاسة الجمهورية آنذاك إلى مديرية الآثار تقترح تقديم قطع أثرية له كتعبير عن تقدير رئيس الجمهورية أحمد حسن البكر بالضيف الأوروبي. غير أن الرفض كان حاسما وقتها من قبل مديرية الآثار باستحالة تقديم أي قطعة أثرية.

واصل الدكتور سعيد استذكاره التاريخي في الإجابة على سؤالي المعاصر عن تهريب الآثار العراقية بعد حرب الخليج الثانية، مؤكدا أن رئيس الجمهورية تدخل آنذاك طالبا تقديم أي هدية أثرية ممكنة للضيف كنوع من التقدير من قبل العراق. فصار الاتفاق بعدها أن تقدم له “طابوقة”، وهي نوع من الآجر الحجري الآشوري تشيّد به المباني، ووقع الخيار عليها لأن مديرة الآثار تمتلك من مثل تلك القطعة عشرات الآلاف.

كان الدكتور مؤيد سعيد قد فنّد بطريقة ما، ما كان يدفعني له الشغف الصحافي للحصول عليه!

توجهت بعدها إلى الآثاري الراحل بهنام أبوالصوف لألتقيه في نادي العلوية وأعيد عليه نفس سؤالي السابق، لكنني في النهاية لم أستطع إكمال قصتي الصحافية..

ما كان الأكثر طلبا في الصحافة عام 1992 عن تهريب الآثار العراقية، تحول إلى حقيقة سائدة بعد احتلال العراق عام 2003 عندما لم يكتف بنهب المواقع الأثرية العراقية من قبل بعض الجنود الأميركيين، بل امتد النهب إلى المتحف العراقي من قبل اللصوص. لذلك تكرر كثيرا سؤال لماذا حمَت القوات الأميركية وزارة النفط العراقية وتجاهلت مبنى المتحف العراقي، إلى درجة ما عاد مجديا إعادة إطلاقه فيما العراق برمته يعيش الفضيحة التاريخية.

حمّل بعدها عالم الآثار الدامرجي قوات الاحتلال مسؤولية ما جرى للآثار العراقية، مشيرا إلى أن الأمر لا يقتصر على تسهيل عملية اقتحام المتحف العراقي وسرقة خزائنه وتحفه النادرة أمام أعين القوات الأميركية، بل إن الأمر أكبر من ذلك عندما حوّلت تلك القوات بابل، أكبر وأقدم مدينة آثارية في العالم، إلى معسكر ومقر لدبابتها وطائراتها التي دمرت شوارع وجدران هذه المدينة التاريخية بقصد محو ذاكرة العراق.

كان من المناسب استعادة ذلك، مع احتفاء رئيس الحكومة العراقية مصطفى الكاظمي باستعادة الآلاف من القطع المنهوبة بعد زيارته إلى الولايات المتحدة، فيما الصحافة الغربية تعيد منذ أيام قصة قرار المحكمة الأميركية، بإعادة القطعة الأثرية النادرة، المعروفة باسم “رقيم حلم جلجامش” إلى السلطات العراقية بعد أن دخلت إلى الولايات المتحدة بطريقة غير قانونية.

قيمة القصة المتداولة منذ أكثر من أسبوع أن الرقيم الأثري الذي بيع بـ1.6 مليون دولار يقدر عمره بـ3500 عام، ومدون فيه نص من ملحمة جلجامش، أحد أقدم الأعمال الأدبية في العالم. صرح وزير الثقافة العراقي حسن ناظم بأن اللوح ينتظر بعض الإجراءات السهلة كي يعاد إلى موطنه الأصلي.

من حق حكومة الكاظمي أن تحتفل بما أسمته إنجازا، وهو في حقيقة الأمر صحيح بحدود معينة، لكن مقابل ذلك تدرك الحكومة أن مافيا تهريب الآثار موجودة أصلا وهي واحدة من أقوى لوبيات الفساد في العراق، كما كشفها قبل عام الصحافي الشجاع روبرت وورث في تقرير مفصل في صحيفة نيويورك تايمز.

أو بتعبير ندى الشبوط أستاذة التاريخ والفن في جامعة شمال تكساس التي عدت احتفال العراق مجرد “انتصار صغير”!

وكتبت الشبوط في صحيفة واشنطن بوست “تم نسيان الكارثة الثقافية التي بدأت في العام 2003. وبعد ما يقرب من عقدين من المناشدات التي لم تجد صدى لها، من أجل العمل الدولي الجماعي لإعادة الآثار العراقية، يتم الاحتفال اليوم بانتصار صغير، لكن كما يبدو أن حجم الخسارة أكبر بكثير، والمتسبب بها لا يواجه أي عقاب، بينما يدفع الشعب العراقي الثمن”.

لسوء الحظ أن احتفال الكاظمي وناظم لا يحجب أن العراق منذ عام 2003 لا يزال يتعرض للنهب والسرقة مع القليل من العواقب، إن وجدت أصلا، فيما يتم التغاضي عن سرقات كبرى.

العودة إلى التاريخ طريقة مريحة بالنسبة إلى العراقيين لتغييب خساراتهم المعاصرة مؤقتا، فالكلام عن أقدم حضارة إنسانية علّمت البشرية الكتابة يتأتى بشكل تلقائي عندما يتم الحديث عن انهيار الدولة وسقوطها في قبضة الميليشيات. ولأن العراق بلد مخطوف اليوم يصبح الاستنجاد بالتاريخ كجائزة ترضية لمن يعيش في أسر الخاطف.

مع ذلك يحتاج العراقيون إلى فهم وإعادة تقييم تراثهم وهويتهم. فمن شأن الوصول إلى الماضي أن يزود العراقيين بأدوات حاسمة لمعرفة من هم وإلى أين يريدون الذهاب في المستقبل؟

عملية تهريب الآثار لا تكتفي بلصوصية البحث عن الأموال، بل متعلقة بهدف سياسي شرير لمحو هوية العراقيين وذاكرتهم الجماعية وتقديمهم مجرد شعب منقسم على نفسه يعلي من شأن الطوائف والقوميات ويحطّم ثروته الآثارية، أكثر من كونه ساهم في بناء الحضارة الإنسانية.

عندما نعرف أن لا أحد من الجيل المولود بعد عام 2003 من العراقيين قد سبق له أن زار المتحف العراقي، ندرك ما معنى ألا يتسق العراقي مع عراقيته.

أتذكر زيارتي الأخيرة إلى المتحف العراقي، كانت أثناء أمسية فنية للموسيقار نصير شمة وهو يصنع من التاريخ قطعة فنية بين الأعمدة الرخامية والثيران المجنحة، وبعد تلك الزيارة بأكثر من عشرين عاما وقفت أمام الثور الأشوري المجنح في المتحف البريطاني، بمشاعر غامضة وتأمل صامت عصي عن التفسير. لكنني وجدت عراقيتي بطريقة أعمق مما أعرف عن نفسي! وبعدها بسنوات عندما وقفت أمام مسلة حمورابي في متحف اللوفر، كنت أسأل نفسي عما إذا كان جدنا البابلي العادل سعيدا بوجوده في باريس. كان يتبادر إلى ذهني مقابل ذلك سؤال “ماذا لو بقيت المسلة هناك واستولى عليها اللصوص؟”.

في المقابل لا يبدو لي أن جلجامش سيمنح مصطفى الكاظمي وحسن ناظم تهنئته الكاملة وإن استعيد اللوح الأثري خلال الأسابيع المقبلة، فيما كف الملك السومري تشير إلى مافيا لصوص الآثار المطمئنة على تجارتها بحماية الميليشيات.