علي الصراف يكتب:
واقع ليس لإيران مخرج معقول منه
إيران ستعود إلى محادثات فيينا ولديها رئيس متشدد. ويفترض به أن يُفلح في ما لم يُفلح به سلفه المعتدل. ولقد تعمّد هذا الرئيس أن يُعيّن في وزاراته الرئيسية متشدّدين. وهناك بينهم، من أمثاله، متهمون بأعمال قتل، أثبتوا على مر سنوات خدمتهم تحت إمرة الولي الفقيه أنهم معتلون بمرض مستعص، ينسون بسببه أنهم يقودون شعبهم إلى الهلاك، وأنهم لن يجنوا من وراء مغامراتهم الخارجية إلا الكراهية والعزلة والعقوبات.
الولايات المتحدة لن تقدم عرضا أفضل مما انتهت إليه الجولة السادسة من محادثات فيينا. والرئيس جو بايدن لن يكون بوسعه أن يرفع كل العقوبات عن إيران، كما لن يكون بوسعه أن يتجاهل دورها التخريبي في المنطقة. وسواء تصرف إبراهيم رئيسي كرئيس متشدّد أو معتدل أو معتل، فإن الحقائق حقائق في النهاية.
من جملتها، أن الإدارة الأميركية تريد أن تنزع قدرة إيران على إنتاج أسلحة نووية. وبرغم كل جدارة الاعتراض على هذا الهدف، انطلاقا من حقيقة أن إيران لن تهدد إلا نفسها بتلك الأسلحة، وانطلاقا من حقيقة أن ميليشياتها هي السلاح النووي الذي ألحق بعدد من دول المنطقة من الخراب والضحايا ما لم تلحقه قنبلتا هيروشيما وناكازاكي، إلا أن إدارة الرئيس بايدن تنطلق من ثلاثة اعتبارات مهمة:
الأول، هو أن امتلاك إيران لقدرات نووية يرفع مستوى التعامل الاستراتيجي معها إلى مصاف مختلف. وهو مصاف يجعل من المستحيل على هذه الإدارة أو غيرها أن تواجه إيران بأي قوة عسكرية تقليدية، إذا اقتضت الضرورة.
وبالنظر إلى أن أعمال العدوان الإيرانية هي جزء من طبيعة اعتلالها الثوري، فإن أحدا لا يعرف متى أو كيف يمكن لمعركة طاحنة أن تنشب، ردا على واحد أو أكثر من تلك الأعمال.
وبحكم أن العلة متأصلة ومستعصية، فإن وضعا جديدا، على غرار ضرب ناقلة النفط الإسرائيلية “ميرسر ستريت” أو حتى قطعة عسكرية أميركية تمخر عباب الخليج، يُفترض أن يُبقي خيار المواجهة العسكرية قائما بيد الرئيس بايدن أو من قد يأتي بعده. وقد يكفي التهديد بالحرب لكي يعرف كل متشدد، معتدل أو معتل، في سلطة الولي الفقيه، أنه لا يملك الرفاهية النووية التي تجعله في منأى عن العقاب.
أما الاعتبار الثاني، فهو أن وجود قدرات نووية لدى إيران يصيب في مقتل كل استراتيجية التفوق العسكري الإسرائيلية. وبينما لا تزال إسرائيل قادرة على توجيه ضربات من تحت الحزام لإيران، سرّا وعلانية، فإن وجود قدرات نووية لدى إيران يمكن أن يجعل رد فعلها أكثر شراسة.
أما الاعتبار الثالث، فهو إيران غير نووية إذ يبقى ضعفها العسكري ضعفا بنيويا، فإن تأثيرات هذا الضعف تمتد إلى ميليشياتها في المنطقة. بمعنى آخر، فإن امتلاك إيران لقدرات نووية يمكنه أن يزود هذه الميليشيات بالمزيد من الاستعدادات لارتكاب أعمال وحشية. هذه الميليشيات أظهرت حرصا على أمن إيران في كل مرة كانت ترتكب فيه عملا من أعمال العدوان أو التخريب أو القتل. ولو حدث أنها اطمأنت إلى أن وليّها الفقيه بات قادرا على الدفاع عن نفسه، فإن شيئا لن يمنعها من ارتكاب أي عمل. والعلّة التي تجعل سلطة الولي الفقيه مريضة بنزعات القتل والتخريب وصنع الفوضى، هي ذاتها العلة التي تجعل من هذه الميليشيات أدوات من النمط الذي نراه ونعرفه.
ولهذه العلة دوافع أيديولوجية وفقهية تجعل سرديتها تغص بالتعطش لسفك الدماء من دون قدرات نووية، فكيف إذا تزود الولي الفقيه بها؟
لا أحد يجب أن يستغرب أن تلك السردية سوف تبدأ تقص قصة أخرى، تجعل البكائيات العليلة على الحسين، بكائيات نووية، حتى ليتصور زبانية مثل حسن نصرالله وقيس الخزعلي، أن الحسين صار مسلحا في مواجهة يزيد ومعاوية، ليس بصواريخ عابرة للقارات فحسب، إنما بقنابل نووية أيضا.
في مقابل الفوز بهذه الاعتبارات قد تحصل إيران على “مكافأة” هي أقرب إلى الجزرة المعلقة أمام رأس الحمار لكي يلاحقها. وبالقيود المتشددة حول سبل إنفاقها، فإن سلطة الولي الفقيه تكون قد خسرت التهديد النووي الذي ظلت تراهن عليه، ولم تفز بالجزرة.
لا شيء يزول أيضا من قابلية الولايات المتحدة وشركائها الدوليين على ممارسة الضغط في كل الأمور الأخرى.
إعطاء إيران حبوبا مهدئة للأعصاب لتخفيف أعراض العلة، يمكن أن يكون خيارا معقولا، لتهدئة أعصاب حسن نصرالله، والتخفيف من حالة الهستيريا التي تعاني منها باقي ميليشيات إيران في المنطقة.
أما العزلة الداخلية التي يعاني منها نظام الولي الفقيه، فهي لن تتراجع لمجرد أن هذا النظام صار لديه حفنة دولارات. حفرة العوز وانهيار البنية التحتية والفقر والبطالة والتضخم لن تملأها المئات من المليارات. وستظل إيران بحاجة إلى ما لا يقل عن تريليون دولار لكي يمكنها من أن تعوض بعض ما فاتها من الفرص التي تتيح لها الوقوف على سوية واحدة مع أي دولة مستقرة أخرى في المنطقة.
هذه المنطقة، هي نفسها، لا تريد حربا. وهي بحاجة إلى متنفس من التوتر المزمن الذي تضعها إيران فيه.
يستطيع المرء أن يفهم من هذا الواقع، لماذا أن هناك في إيران من يعتقد أنها ربما تكون في وضع أفضل لو أنها تمسكت بما أنجزته من برنامجها النووي.
أصحاب هذه القناعة راضون بأن إيران ستواجه عزلة أشد وعقوبات خانقة أكثر، إلا أنها لن تخسر قدرتها على ممارسة التهديدات.
المعنى الحقيقي لهذه القناعة هو أن التهديدات هي المتنفس الوحيد المتاح للعلة. ومن دونها فإن المريض يمكن أن يختنق بعلته.
نحن إذن أمام واقع ليس لإيران مخرج معقول منه. سواء عادت إلى الاتفاق النووي أو مزقته.
فجوة الفشل الاقتصادي والاجتماعي في إيران بلغت حدا لا يمكن ردمه. هذه هي الحقيقة الأهم. وسواء أكان هناك رئيس متشدد أو معتدل أو معتل، فإن الواقع هو نفسه الواقع.