أحمد الخالصي يكتب:

هكذا عرفت الحسين

حينما كان الزمن يحسب وفق التوقيت المزاجي لسيادة القائد الأوحد، إذ لا قوافل تسير خارج نطاق نباحه، وحينما لم يكن عمري يسمح بأن أكون أحد متبادلي المنشورات السياسية السرية، لا مصدر للنضج إلا رؤى زيتونية، فالتلفاز رهن لقاءات القائد والكتب المنهجية تتذيل بأقواله.

عرفت الحسين قبل إن أعرفه حقا، أستشعرت فيه كنزًا مدفونًا تحت أقبية الخطر والمشانق،
وذلك  من خلال ماكانت تقوم به والدتي من تحويل بيتنا وقت الظهيرة إلى مايشبه المقر السري، إذ تحكم إغلاق النوافذ والبيبان، لحظات نفقد فيها الاتصال بأي شيء خارج جدران المنزل،  من ثم تفتح الراديو على صوتٍ يحمل حنية الجد، فأزداد تعلق به،إذا كنت لا آراه إلا في المناسبات السنوية، يقطن في محافظة ونحن بأخرى.

يلقي هذا الصوت كلامًا لا افهمه من ثم ينعى بحرقةٍ تصلني حرارتها، أمي تبكي لكنها تكتم نحيبها، وبينما هي كذلك كانت تراقب الوضع، تلقيت حينها وأنا الطفل أولى دروس العمل السياسي.

وبعدها سقط القائد، وظن الجميع خيرا، لكن بعد الظن أمريكا، أصرت إن تكمل المسيرة لكن بوجوهٍ عدة، بدأت أسراب الخراب تغطي بلدي، إلا هذا الصوت ظل عامرًا كما لو إنه إرادة الرب، بعدها عرفت إنه الحسين  الممنوع في أروقة السلطة، لعدم تأقلم فحواه مع مآربها في السطوة.

بدأتُ أقتفي أثر الدروس  أبحث مابين  مواقفه عنها، كل درسٍ أطالعه يأخذني لغيره، كأنه المدينة والباب للحياة،
تعلمت إن المرأة أعمق مما أتصور، كيف لا تكون كذلك والثورة لم تكن لتقف بوجه الزيف الأموي لولا السيدة زينب،  لقد صدح صوتها هازمًا كل نعيق التاريخ.
تعلمت إن التعدد سمة الإنسان، ومتى ما اجتمع معك مختلفوا المشارب فأعلم أنك غرفت من النبع الصافي، فهذا وهب  وذلك زهير بن القين والخ...، تعددت ألوان عقائدهم لكنها توحدت تحت رأية واحدة،
تعلمت إن الوقوف بوجه الظلم عبادة، وهي فريضة يؤديها الضمير،
كذلك إن نبتت الخلود حقيقية، تزرع في حدائق الإصلاح،
تعلمت إن الطف متعلق في وجود العالم، معادلة الخير والشر، لذلك يتكرر في تتابع أمتداد طرفيّ النزاع،
تعلمت إن الثبات لا يعني إن تقف دومًا فيمكن إن تكون كذلك وأنت مضرج بالآلاف السهام،
تعلمت إن القوة أساسها التسليم للرب.

مضت السنين وأنا أتخطاها متعكزًا على ذلك، حتى بلدي فعل ذات الأمر،  فكلما تعثر في أزمة تقعد وجوده، نادى ياحسين ونهض متحررا.