علي الصراف يكتب:
معضلة ميليشيات إيران في العراق
العراق بلد صعب حتى على أهله. فكيف لا يكون صعبا على إيران؟ صحيح أنها استعانت عليه بأحزاب “تبعية”، وميليشيات “ولاء”، وكان يُفترض بهؤلاء أنهم يعرفون بلدهم وتعقيداته، إلا أنهم انشغلوا عن الفهم بالنهب، وعن الحكمة بأعمال النصب، وعن إدامة السلطة لأنفسهم بتخريبها.
إيران الصفوية، فعلت الشيء نفسه قبل نحو 500 عام. استعانت بما كان يسميه الشاه إسماعيل الصفوي، بـ”الغلمان” لكي يسحقوا بغداد ويجعلوا أهلها أذلاء حتى صاروا يأكلون جثث الكلاب. إلا أن إيران هُزمت في النهاية. هزمها الغلمان بما فعلوا. من ناحية، لأنهم من سقط سقط المتاع، كما يستطيع المرء أن يراهم نسخة طبق الأصل الآن. ومن ناحية أخرى، لأن أفعال الجريمة لا تديم سلطة ولا نفوذا لأحد.
والمشكلة في الفساد هي أنه لا يستطيع أن يُفسد كل الناس. وحتى ولو تحوّل الفساد إلى نظام لتعميم نقائص الشرف، فإنه يظل قائما على “حرامية كبار” وحرامية يلحقهم الحرمان.
أحد أكبر الدلائل هو أن أكثر من تريليون دولار من عائدات النفط، أفضت إلى شعب ينقصه كل شيء، ويعمه الفقر والجوع والبطالة ومشاعر الغضب.
ولا شيء خافيا على أحد. الكل يعرف الكل في العراق. وألعاب “التقية” والنفاق والأكاذيب والخداع لم تعد تنطلي على ضحاياها، من قاع المجتمع إلى أعلاه.
لا يستطيع المرء أن يزعم أن إيران لم تستفد من غلمانها. فقد نهبوا لصالحها الكثير. حتى أن نظامها الخاضع للحصار، أفلت من الأضرار بما قامت “الجماعة” بتوفيره له من عائدات النهب.
أما “الجماعة”، فإنها، جماعات تتنافس في ما بينها على شيئين: رضا وليها الفقيه، وحصتها من أعمال النهب. وهناك بينها منافسات عائلية، تمتد على عقود طويلة مضت. والأصل في هذه المنافسات لم يكن ذا صلة بفروق في الاجتهاد، وإنما بفرص الهيمنة على أموال “الخُمس”. أي أنها كانت من الأساس، منافسات فساد.
وهناك مرجعيات دينية في العراق تلتئم في إطار ما يسمى بـ”الحوزة العلمية” ومقرها النجف. هذه “الحوزة” ليست حوزة فقه طائفي فقط. إنها “حوزة مال” أيضا.
ويستطيع المرء أن يلاحظ أن الروزخونيات والبكائيات وأعمال التفقه في النوافل والتوافه، وأعمال التزوير في التاريخ، تُمارس كغطاء سميك لتجارة الاختلاف الطائفي، إلا أنها تُمارس للكسب المادي بالدرجة الأساس. فلا تحسبن أن العمامة السوداء أو الخضراء هي عمامة زهد بالحياة الدنيا ومالها. انظر تحتها وسترى عجبا عُجاب. بما يشمل كل شيء، بما فيها أقذر الموبقات.
الميليشيات التابعة لإيران ورثت هذا “الفقه”، فتصارعت بما كان الحوزويون يتصارعون عليه. وكل ما فعلته هو أنها نقلت أفاعيلهم إلى الشارع. وبدلا من أن تجري المنافسات خلف أبواب مغلقة على حصص تنأى بنفسها عن أعين السلطة، فقد نقلتها الميليشيات إلى السلطة، لتكون هي نفسها جزءا من عالم المنهوبات.
يحدث في هذا الواقع المُر، أن تقفز يقظة الضمير لتهز الأركان. رجال دين، لحقهم الحرمان، وغالبية عظمى وجدت نفسها في قلب الخراب، كان لا بد في النهاية أن تجد سبيلا للتخاطب على خيارات أخرى ومصير آخر.
“الجماعة” حتى وإن ظلت على تماسكها بقرار من طهران، لكي تضمن من خلالها استمرار قدرة غلمانها على إدامة النهب، إلا أن “الجماعة” ترى ما تخسره حيال أحدها الآخر وحيال يقظة الضمير.
بعضهم، حاول أن يركب موجة تلك اليقظة لكي ينهبها، إلا أن هذا البعض يعرف أن هذه الموجة باتت أكبر من أن يركبها أحد بخبثه ونفاقه.
“التشرينيون”، على سبيل المثال، يعرفون نفاقيات مقتدى الصدر، ولكنهم سمحوا له بالمشاركة في تظاهراتهم. هم بما يطلبون، وهو وجماعته بما يتنافقون عليه. حتى فاض به الكيل، فأخرج السكاكين ورفع الهراوات عندما رأى أنها كبرت عليه، وكبرت على منافقاته.
جانب من يقظة الضمير صار يشق الغلمان بعضهم عن بعض، حتى ولو أن نداء الوحدة يظل هو ما يتردد في النفوس، خوفا من نهاية تجرفهم كما تجرف البلدوزرات أكوام القمامة، من دون أن تُفرّق صالحا عن طالح. إذ لا صالح في ما تركوه من إرث الخراب. وهم يعرفون ذلك، ويجتمعون على خشيته. وإيران نفسها تهددهم به، أو تحذرهم منه.
إلا أن جانبا آخر من يقظة الضمير صار يقظةَ بحثٍ عن الخلاص. إذ قادت أحزاب التبعية وميليشيات الولاء البلاد إلى دائرة مغلقة، لا تني تضيف خرابا على الخراب، وفشلا فوق الفشل، ونقمة مضادة فوق النقمة القائمة أصلا.
الوطنية الناهضة، هي ما يبدو الآن ملاذا للخلاص. إنها قفزة من المركب الغارق، ومحاولة للالتحاق بركب الحاجة إلى التغيير. وهي على أي حال، الإطار الوحيد الذي يمكنه أن يجمع العراقيين على أنفسهم.
هذه الوطنية هي الركن الذي لم يهتز على امتداد تاريخ العراق المعاصر. اختلف فيه الكثيرون، إلا أنه الركن الذي ظل قادرا على جمعهم. وهو ركن ذو أسس ومعايير لا تخطئها المشاعر ولا الأنظار، ولا تتطلب الكثير من التفلسف. إنه ركن بسيط بساطة الناس أنفسهم.
أحد أهم أوجه البساطة فيه، هو أن إيران آخر من يحق له أن يستولي على مقدرات العراق. هناك إرث أبعد من إرث غلمان إسماعيل شاه. أبعد حتى من معركة القادسية. أبعد من الإسلام نفسه. تجده في القرآن الكريم في تلك السورة التي قالت: “غُلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غُلبهم سيَغلبون في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون”.
والروم كانوا قد غُلبوا، قبل أن يعودوا ليغلبوا بعد 9 سنوات. والمؤمنون، من يومئذ ما زالوا يفرحون بهزيمة الفرس.
هذا رب العالمين. لا أنا ولا أنت! فماذا بوسعك أن تفعل؟
بل أبعد من كل ذلك أيضا. فالحضارة السومرية لم تعرف عدوا أسبق من عصابات النهب والسلب التي كانت تأتيهم من الشرق، حتى اقتضى أن يكون العراق هو حارس الجدار الشرقي للأمة العربية بعد خمسة آلاف عام.
قصة الصراع بين العراق وإيران، جزء من الهندسة الوراثية للجينات. حتى أصبح من أول الوطنية في العراق، أن تكون مناهضا لسلطة إيران (إمبراطورية، أو شاهنشاهية، أو جمهورية عصابات) ولكل ما تفعله، ولكل مَنْ ترسله، ولكل مَنْ تستعين به، حتى ولو كان إماما، فكيف إذا اتضح أنه حرامي وابن حرام؟