محمد خلفان يكتب:

طالبان.. وانتقام المنتصر

ليس من السهل أن تغيب عن أذهان الناس مشاهد ظهر خلالها الشعب الأفغاني وهو يحاول الهروب من بلاده خوفا من حكم حركة “طالبان”، لأن الذاكرة الإنسانية ما زالت تعي ما حدث خلال فترة حكمها قبل الحادي عشر من سبتمبر 2001. كما لا يمكن الاطمئنان على الوعود التي يقدمها قادتها لمستقبل البلاد خاصة أن عائلات هؤلاء القادة تعيش خارج أفغانستان، بعضها في الهند والبعض الآخر في روسيا وباكستان.

الأمان إحساس نفسي وقناعة أكثر منه ترديدا لكلمات يعرف المجتمع الدولي مغزاها. لهذا تسارع الدول إلى إجلاء مواطنيها بأقصى سرعة، وتساعد أيضا على توزيع بعض المواطنين الأفغان على دول العالم.

ما أسوأ الذكريات التي تعيد إلى أذهاننا جرائم انتقام الإنسان من أخيه الإنسان، لمجرد أنه استقوى وصار في مركز السيطرة على المجتمع. وما أتعس من ينتشي على مشاهد قتل من يختلف معه أيديولوجيا، معتقدا أنه على صواب مطلق. ومع أن للذكريات دورا عظيما ومهما في التعلم من التجارب وأخذ العبر والدروس، لكن يبدو أن هناك في الشرق الأوسط من ينسى ما حدث جراء تأييد حاملي هذا النوع من الفكر الذي لا يعرف أصحابه العيش دون قتال.

القضية أو المعضلة التي ما زالت تشغل شعوب منطقة الشرق الأوسط، خاصة الإسلامية والتي تدور وتلفّ في فلكها، هي انتشار ثقافة الانتقام على طريقة “الكل يقتل الكل”. فبمجرد أن تتمكن جماعة أو حزب من الحكم تمارس أشد أنواع التنكيل ضد الآخر حتى ولو كان من نفس طائفته، فقط لأنه يعبّر بطريقة مختلفة عنه، وكأننا بالحكام الجدد يريدون إفراغ المجتمع أو الدولة من كل من اختلف معهم، ومن كل من يرفضونه وفق ثقافة “أنا خيّر منه” التي أخرجت الشيطان من الجنة.

كلما استعرضنا تجربة وصول طرف من أطراف تيار الإسلام السياسي إلى الحكم، نجد أن التعامل مع الشعب في ذلك البلد يقوم على توجيه الأذية وإلحاق الضرر به. لذا على الجميع الحذر في التعامل مع تيارات الإسلام السياسي اتقاء لشرّها، فهي مجرّدة من أي مشاعر تجاه ضحاياها حتى ولو كانوا أطفالا أبرياء، كما يحدث في أفغانستان اليوم.

ما يزيد من حجم المأساة أنهم (المنتسبون لتيار الإسلام السياسي) يقومون بكل ذلك وكأنهم يتمتعون بصفات خالق الكون أو أنهم يطبقون شرعه، وبالتالي يعطون لأنفسهم الحق في أن يفعلوا بالبشر ما يريدون. أما الأصوات المؤيدة لتصرفاتهم من رجال الدين وغيرهم في أصقاع الأرض، فتتخذ من هزيمة المعتدي أو “الغزاة” مبررا، رغم أن الضحية مواطن ومسلم مثلهم. وهم في ذلك يبحثون عن ضمان يحميهم من أي عقوبة تلحق بهم في هذه الحالة.

هؤلاء الذين يصلون إلى سدة الحكم حاملين معهم فكرا انتقاميا، لا تعنيهم عادة حياة الآخر المختلف عنهم، والآخر وفق معتقداتهم لا يستحق الحياة أصلا.

لأن الأساس في فكرهم هو الإلغاء وعدم الإحساس بالعيش بأمان، وفي أفضل الحالات على الآخر أن يترك الدولة ويهاجر، لأن الدولة لا تتسع إلا لهم ولأتباعهم، أما مؤيديهم من خارج الحدود فإنهم لا يقبلون العيش معهم ويكتفون بالمشاهدة والاستمتاع والتشفي في الغير، إلى أن يأتي الوقت الذي يبدأون فيه بتصفية بعضهم البعض وفق نظرية “أنا خير منه”.المعضلة التي تشغل شعوب المنطقة هي انتشار ثقافة الانتقام، فبمجرد أن تتمكن جماعة من الحكم تنكّل بالآخر المختلف حتى ولو كان من نفس الطائفة فقط لأنه يعبر بطريقة مختلفة عنها

الكارثة في مشهد أفغانستان أن هناك تصريحات مؤيدة لأفعال طالبان أغلبها يدور في الخفاء ولا يظهر للعلن، كما حدث عندما أيدوا هجوم الحادي عشر من سبتمبر 2001 في الخفاء خوفا من ردة فعل المجتمع، متناسين التبعات التي لحقت بعدها بالعالم الإسلامي. حيث تبدو قدرات البعض في هذه المنطقة على التسامح والتعايش الحقيقي معدومة، لأن ثقافة الانتقام كما يبدو راسخة في تركيبتهم وربما في جينات بعض أبناء المنطقة. وبمجرد وصولهم إلى السلطة نجد أن الكل يريد أخذ ثأره والانتقام من الكل، حدث ذلك العراق وليبيا وأفغانستان وغيرها من الدول.

إن تطويع الشعوب من خلال بث الرعب والإرهاب والقتل والتنكيل والاغتصاب الذي يؤدي إلى حالة من الهروب الجماعي والاستهانة بالموت نتيجة لحالة اليأس حتى صارت الشعوب تعتقد أنه لم يعد هناك أمل أو هدف يمكن أن يعيشوا من أجله. وهذا هو الفشل الذي يمهد لعودة ثقافة الانتقام. طالبان اليوم تعطينا أفضل مثال على ما تفعله كل حركات الإسلام السياسي، فهي ما إن تصل إلى السلطة، حتى تسارع وتمهد لعودة الانتقام.

تدارك القادة في القارة الأفريقية، التي أول ما يتبادر إلى الذهن عندما يتم ذكر اسمها أنها قارة مليئة بالحروب الأهلية والفقر وغيرها من الكوارث التي تهدد حياة البشر، هذا “المسلسل الخطير” وعملوا على تجاوز هذه الثقافة. فتجاربهم في مجال التسامح والتعايش يضرب بها المثل. فقد بقي المناضل الأفريقي الراحل نيلسون مانديلا، أول رئيس أسود لجمهورية جنوب أفريقيا، حتى آخر أيامه يدافع عن فكرة التسامح والتعايش بين الشعب في جنوب أفريقيا، رغم كل الأذى الذي لحق بأهل البلد الأصليين من البيض. ورغم وجود موروث تاريخي مليء بكل أنواع الانتقام، إلا أنه أراد أن يكتب تاريخا جديدا للقارة بأكملها ونجح بعدما أقنع شعبه بأهمية التسامح للبناء والتعمير فتبعه الرئيس الرواندي بول كاغامي الذي رفع شعار “نمسح دموعنا بيد ونبني باليد الأخرى”. اليوم رواندا هي من الدول التي تحظى بالاهتمام العالمي في مجال العفو.

فشل بعض المجتمعات بسبب ثقافة إلغاء الآخر التي تحولت إلى قناعة حتى صرنا لم نعد نرى أننا نحن من نمزق مجتمعاتنا بتناحرنا وتقسيم أنفسنا إلى فئات ضالة وأخرى ناجية.