علي الصراف
طلب انتماء إلى تنظيم إسلامي متطرف
صحيح أن الوقت قد فات، ولم يبق من العمر ما يجوز تضييعه، إلا أني أرغب بالانتماء إلى إحدى المنظمات الإسلامية. أكثرها تطرفا لو أمكن. لأعرف ماذا يقرؤون. وكيف يقرؤون.
اعتقادي هو أن هذه المنظمات لديها مشكلة في الفهم. ومشكلة أعقد مع الفهم. ولهذا السبب فإن معرفة قراءاتهم ربما تكشف عن أسرار تلك المشكلة.
كل ما أعرفه عن قراءاتهم، هو بالأحرى قراءات عن تلك القراءات. أي أنها صورة عن الأصل، وليست الأصل نفسه.
أن تُمسك بكتاب “معالم في الطريق” أو “في ظلال القرآن” للسيد قطب وتقرأه، ليس كمثل أن تُتلى عليك مضامينه في الاجتماعات داخل المنظمة. هناك ينشأ فهم مختلف. تنشأ مناورة تجعل الفهم مقدسا، فيُصبح عدم فهم.
عندما كنت شيوعيا، كنت أقرأ لينين وكارل ماركس. وكنت، كغيري، أقدّم فهما معيّنا لما أقرأ. ولقد احتاج الأمر عشر سنوات على الأقل بعد تحرري من هذا الانتماء، لكي أفهم أني لم أفهم شيئا، وأني بحاجة إلى أن أقرأ ماركس من جديد، لأرى مكمن الرؤية الثاقبة التي جعلت “رأس المال” واحدا من أهم الكتب في مناهج التعليم في كليات الاقتصاد في العالم الرأسمالي نفسه. كنا نقرأ ماركس مقدسا. فلم نستوعبه. وفعلنا الشيء نفسه مع “ما العمل” للينين، وبقينا لا نعرف ما العمل.
الشيء نفسه يحصل عندما تقرأ “الخلافة والملك” أو “نظام الحياة في الإسلام” لأبي الأعلى المودودي.
أحد أهم وجوه المشكلة في الفهم، هي أن الإسلاميين يعتقدون أن القضية الأهم هي “مَنْ يحكم”. والمودودي يقول إن الله هو من يجب أن يحكم. ولكن هناك ما يبرّر الاعتقاد بأن المشكلة ليست مشكلة “مَنْ يحكم”، الله أو واحد من عباد الله، لا يهم، ولكن “كيف يحكم”.
في القراءة المقدسة، سوف ترى أن الشريعة، طبعا، هي ما يُجيبك على السؤال: “كيف يحكم”. ولكن في القراءة “غير المقدسة” سوف ترى شيئا آخر مختلفا، من قبيل: كيف يتصرف الحاكم في قضايا الناتج الإجمالي والميزان التجاري.
هذه فهم. وتلك فهم آخر. ومن هناك تبدأ المشكلة مع الفهم. بمعنى: أن ما يتاح لديك من أدوات للفهم، ما إن يأخذ بك في طريق، حتى لا تعود قادرا على رؤية أي شيء في الطريق الآخر. وفي الوقت نفسه سوف تظن أنك على حق دائما.
سوف تسأل نفسك: هل من المعقول أن تكون الشريعة على خطأ؟ ولسوف تجيبك نفسك بالقول: وهل من المعقول أن تتحمل العيش مع أي أحد يتحدث معك، بدلا منها، عن آلية تفاقم مشكلة التضخم؟ وأثرها على صادرات البلاد من البضائع؟ وما قد ينتج عنها من بطالة وفقر وغير ذلك؟
بالطبع لن تتحمل. ولو أتيح لك أن تحمل مسدسا، فسوف تقتله، لأنه كافر. وهو ما يعني أن المشكلة مع الفهم تظل تكبر وتتفاقم إلى ما لا رجعة فيه.
أنظر إلى حركة طالبان. لقد حققت نصرا عسكريا مؤزرا. ولكنها تحقق لنفسها كل يوم هزيمة منكرة. سببها تلك المشكلة مع الفهم.
هذه الحركة تريد أن تقيم “إمارة إسلامية”. قال المؤمنون، حسنا. انحلت المشكلة مع “مَنْ يحكم”. ولكن ماذا بعد؟
الآن، هات كل كتب الشريعة، وقل لي من أين ستدفع طالبان رواتب الملايين من الموظفين الذين قالت إنها عفت عنهم.
أغلب الظن، أن إعدامهم أسهل من تركهم يتضورون جوعا. الإعدام، يمكن أن نجد له تبريرا في الشريعة. ولكن كيف تجد، في علاقات الاقتصاد والمجتمع، تبريرا لتجويعهم؟. أليست هذه مشكلة؟
ثم ضع كل التفاسير أمامك، واشرح لي كيف سوف يتدبّر “أمير المؤمنين” هبة الله أخوند زادة، الفارق الشاسع بين الموارد المتاحة وميزانية الحكومة. الفرق هنا يبلغ نحو 8 مليارات دولار سنويا، كانت الولايات المتحدة ودول أخرى هي التي تسدده.
لا توجد دول أجنبية (كافرة ولا مؤمنة) مستعدة لتمويل العجز في الموازنة العامة الأفغانية. وصندوق النقد الدولي ليس كمثل مغارة “علي بابا”، تقول له: افتح يا سمسم، فيفتح أبواب الرزق.
الرزق نفسه، قصة لها معنيان. واحد تتعرف عليه عندما تقرأ “ثروة الأمم” لآدم سميث، والآخر تتعرف عليه عندما تقرأ “سعة الرزق” للدكتور محمد راتب النابلسي، أو “الرزق” للشيخ محمد متولي الشعراوي.
لا توجد دول أجنبية كافرة ولا مؤمنة مستعدة لتمويل العجز في الموازنة العامة الأفغانية، وصندوق النقد الدولي ليس كمثل مغارة "علي بابا" تقول له افتح يا سمسم فيفتح أبواب الرزق
أن تحكم ليس هو المشكلة. الذين انسحبوا أمام تقدم طالبان، قالوا لها من الناحية الواقعية، تعالوا لتحكموا. ولكن ها أنتم في مواجهة مباشرة بين فهم وآخر. أحدهما يكتفي بتفاسير وتأويلات الشريعة، والآخر يتعلق بتفاسير وتأويلات البطالة والتضخم.
هذا حكم، وذلك حكم آخر.
طالبان تملك فكرة عن إدارة الموارد، إلا أنها فكرة ريفية مبسّطة. وهي لا تكفي لإدارة حكومة، جيش موظفيها لا يزرع شيئا.
لقد حكمت طالبان أفغانستان لـ15 سنة بين العام 1996 والعام 2001، ولكنها حتى في ذلك الوقت كانت تستفيد من منافذ الدعم التي أتاحها الصراع بين القوتين العظميين. هذه المنافذ أغلقت الآن. لم يعد الصراع بين القوتين العظميين هو مصدر الرزق. وبات من الضروري للأرزاق أن تنشأ في أعمال غير زراعة الخشخاش.
صناعة التعدين التي يتوقع أن تكون هي مصدر الثروة الأهم، تتطلب حكومة تفهم أنها صناعة طبقتين اجتماعيتين مختلفتين. هما طبقة عمال، وطبقة مهندسين وخبراء وفنيين. والعلاقة مع هاتين الطبقتين ليست كالعلاقة مع الفلاحين. إنهما طبقتا حقوق وقيم ومعايير اجتماعية مختلفة. وما لم تكن قادرا على العثور على تلك الحقوق والمعايير في كتاب “زبدة الفوائد” لابن تيمية، فلسوف تكون مضطرا إلى قراءتها في المواثيق الدولية لحقوق الإنسان. وإلا انقلبت عليك زبدة المواجع.
وتقول طالبان إنها تريد إقامة “حكومة شاملة”، ولا أعرف أين عثرت على هذه الإمكانية في كتب التفسير، إلا أنها لم تتوصل إليها لأنها آمنت بـ”العقد الاجتماعي” لجان جاك روسو.
المشكلة مع كل حركات الإسلام السياسي، هي أنها، عندما تكون في المعارضة، لا تريد أن تفهم. ولا يناسبها أن تفهم. وعندما تأتي إلى السلطة تتفاجأ بما لم تفهم. فتجد نفسها في ورطة مع الميزان التجاري.
وما من سبيل لكي تجعلها تجد فائدة في قراءة كارل ماركس وآدم سميث إلى جانب ابن تيمية وأبوالأعلى المودودي، من دون قدسية.
فالمشكلة قد لا تكون في الشريعة أو ما حولها، وإنما في مصانع الإنتاج والديون والفقر وتردي التعليم وفشل البنية التحتية. والكثير منها يتطلب “استثمارات” والصلوات لا تكفي لتوفيرها.
إدارة الصلوات شيء، وإدارة الاستثمارات شيء آخر. وربما أكون على خطأ. ولكن لو أتيح لي أن أنتمي إلى تنظيم متطرف، فقد أجد طريقا لفهم كيف أنه لا يريد أن يفهم، ولماذا ظل “الإسلاميون”، مثل إخوتهم الشيوعيين، يتقلبون بين فشل وفشل.