د. ابراهيم ابراش يكتب:
إرهاب دولة: استهداف مؤسسات المجتمع المدني في فلسطين
ليس مهماً إن كانت مؤسسات المجتمع المدني التي صنفتها دولة الاحتلال الإسرائيلي كمنظمات إرهابية تابعة للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أو لغيرها من الأحزاب، فالعمل بحد ذاته يعد تطوراً خطيراً في مسار إرهاب الدولة الصهيونية مما أثار غضب كل الشعب الفلسطيني وتنديد السلطة الفلسطينية كما استدعى تنديد دول ومنظمات حقوقية دولية عديدة كمنظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش ومركز حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة وحتى مركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة (بتسليم) استنكر القرار، والولايات المتحدة وإن لم تندد بالقرار فقد قالت إنها تتواصل مع الإسرائيليين حول الموضوع.
دولة الكيان الصهيوني الدولة الاستعمارية الوحيدة المتبقية في العالم والتي تمارس كل أشكال العنصرية والإرهاب ضد الشعب الفلسطيني وفي دول الجوار وترفض الاعتراف بقرارات الشرعية الدولية، هذا الكيان لم يتوقف عند نعت المقاومة التي يمارسها الفلسطينيون في سياق حق الدفاع عن النفس بالإرهاب واستهداف المقاومين بالقتل والأسر، بل أوغلت في إرهابها لتستهدف مؤسسات مدنية يتهمها بالإرهاب لمجرد دفاع هذه المؤسسات بوسائل سلمية وقانونية عن حقوق الشعب الفلسطيني.
المجتمع المدني بمثابة القوة الناعمة للشعوب في دفاعها عن الحقوق والحريات في المجالات التي تعجز الدولة عن القيام بها أو تنتهكها، وفي الحالة الفلسطينية كان المجتمع المدني وما زال القوة الناعمة للشعب الفلسطيني للدفاع عن الحريات وفضح الانتهاكات الإسرائيلية داخلياً ودولياً حيث يقوم بأدوار مساندة للثورة الفلسطينية ثم بأدوار تعجز السلطة الفلسطينية عن القيام بها.
قبل السلطة كانت إسرائيل تمنع ليس فقط وجود مؤسسات تابعة لفصائل الثورة الفلسطينية داخل فلسطين المحتلة بل كان مجرد الانتماء لأية مؤسسة مجتمع مدني حتى اتحاد الطلبة كان جريمة يعاقب عليها الاحتلال بالسجن لسنوات، وما بعد قيام السلطة نشطت مؤسسات المجتمع المدني وشكلت القوة الناعمة للسلطة وللحركة الوطنية بشكل عام وركزت نشاطها على متابعة جرائم الاحتلال وانتهاكه لحقوق المواطنين بالإضافة إلى الدور التوعوي والتثقيفي في مختلف المجالات كالديمقراطية والمرأة والدعم النفسي ومساعدة المعوزين، بالإضافة إلى مراقبتها لكيفية تعامل السلطة الفلسطينية مع الحريات وقد كان لهذه المؤسسات المدنية دور في انتقاد وفضح بعض ممارسات السلطة، وقد كانت الدول المانحة وخصوصاً الأجنبية تخصص جزءاً مما تقدمه للسلطة إلى مؤسسات المجتمع المدني مباشرة دون أن تمر عبر مراقبة وإشراف السلطة الأمر الذي عاظم من دورها وتزايد أعدادها دون رقابة أو إشراف، إلا أن الأمور تبدلت بعض الشيء خلال السنوات الأخيرة حيث أصبحت بعض الدول المانحة تفرض شروطاً على المستفيدين من منحها بهدف فصل هذه المؤسسات عن العمل الوطني واستحقاقاته.
اتهام مؤسسات مجتمع مدني بأنها إرهابية أو تدعم الإرهاب لأنها تفضح ممارسات الاحتلال مردود عليه لأنه في الحالة الفلسطينية يتداخل ما هو سياسي بما هو مدني مما يمنح المجتمع المدني خصوصية سواء من حيث التكوين أو من حيث الوظيفة؛ فهو مجتمع ولِدَ في خضم مقاومة الاحتلال، وولادته لم تكن في إطار حركة مطلبية اقتصادية أو اجتماعية فقط، بل في إطار حركة جماهيرية سياسية نضالية تسعى للاستقلال والحرية وإبراز الهوية الوطنية والحفاظ عليها.
تصنيف مؤسسات مجتمع مدني كمنظمات إرهابية أو تدعم الإرهاب وما سيتبع هذا القرار من مصادرة وإغلاق وامتداد لمؤسسات أخرى، وإن كان يعبر عن الطبيعة الإرهابية والعنصرية لإسرائيل فإنه أيضاً يدل على أن هذه المؤسسات تقوم بدور وطني سلمي في كشف وفضح الممارسات الصهيونية ليس فقط محلياً وإقليميا بل الأهم على المستوى الدولي وهو الأمر الذي يقلق الصهاينة لأنه يكشف حقيقتهم للعالم.
هذا القرار الصهيوني خطير جداً لعدة أسباب:
- يستحضر ما جرى مع مؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني في مدينة القدس بعد احتلالها عام 1967 واستمر بعد قيام السلطة الفلسطينية 1994، حيث كانت إجراءات التضييق على المؤسسات الوطنية المدنية ثم إغلاقها جزءاً من مخطط تهويد المدينة ثم ضمها.
- السكوت على إغلاق مؤسسات تابعة للجبهة الشعبية سيشجع الكيان الصهيوني على إغلاق مؤسسات تابعة لبقية الأحزاب بما فيها حركة فتح، بل ستطال تهمة الإرهاب حتى الجامعات والمدارس وكل صاحب رأي.
- يأتي هذا القرار في سياق تكثيف الجهود المعادية لتصفية القضية الوطنية، فالقرار غير منفصل عن المواقف السلبية للولايات المتحدة وللدول الأوروبية في تقاعسها عن دعم العملية السلمية والاعتراف بالدولة الفلسطينية، والاتهامات التي توجهها هذه الأطراف لمناهج التعليم الفلسطينية ووكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين UNRWA بالتشجيع على العنف والكراهية.
- توقيت اتخاذ هذا القرار مع احتدام الانقسام الفلسطيني الداخلي والإجراء الأخير للقيادة الفلسطينية بوقف المخصصات التي تدفعها منظمة التحرير لثلاثة فصائل فلسطينية بما فيها الجبهة الشعبية يهدف لإثارة الفتنة الداخلية والإيحاء وكأن هناك تنسيق بين السلطة وإسرائيل.
- إذا أخذنا بعين الاعتبار أن هذا الإجراء الصهيوني يتزامن مع تواصل مشاريع الاستيطان ومصادرة الأراضي وتوقف عملية السلام ورفض حكومة الاحتلال التفاوض حول مستقبل الأراضي المحتلة والحديث بدلاً من ذلك عن مخطط (الاقتصاد مقابل الأمن) فهذا يعني أن إسرائيل تمهد لضم الضفة الغربية أو أجزاء كبيرة منها، والقادم سيكون أسوأ.
الكيان الصهيوني في خطوته الاخيرة، والتي هي كما ذكرنا جزء من مخطط أكبر، يوغل في إرهابه وعدوانه واستهتاره بالقانون الدولي والمنظمات الدولية وبالرأي العام العالمي لأن هذه المؤسسات كما هو شان بقية مؤسسات المجتمع المدني تتلقى دعما مكشوفا من جهات أوروبية واميركية وعربية كما انها تنسق مع مؤسسات المجتمع المدني عبر العالم ومع المنظمات الدولية غير الحكومية، والأخطر من كل ذلك انه يتصرف وكان الشعب الفلسطيني والاراضي الفلسطينية أرض سائبة لا كبير ولا حامي لهم، الأمر الذي يستدعي ردا حاسما من الكل الفلسطيني ونتمنى أن تكون مخرجات اجتماع القيادة الفلسطينية في مستوى هذا الحدث.