د. ابراهيم ابراش يكتب:
ضعف المعارضة البرلمانية كتهديد محتمل للاستقرار في المغرب
في الأنظمة الديمقراطية يتم عادة الاهتمام والتركيز على العملية الانتخابية وشفافيتها وعلى الأحزاب الفائزة بالانتخابات وعلى الحكومة وتحالفاتها وبرنامجها، ولكن قليلاً ما يتم الاهتمام بحقل المعارضة. وفي ظني ان للمعارضة دوراً في العملية الديمقراطية لا يقل عن دور الأغلبية لأنه بدون المعارضة الشرعية والبرلمانية لا يمكن تداول السلطة، والتداول على السلطة أهم مرتكزات الديمقراطية وبدونه نكون أمام حكم استبدادي أو ديمقراطية شكلية حتى لو جرت الانتخابات.
في المشهد السياسي المغربي، بالرغم من ان غالبية قوى المعارضة تمارس دورها في إطار الالتزام بالدستور كما أنها معارضة للحكومات وبرامجها وليس للنظام والدولة، إلا أنها ضرورية لترسيخ واستمرارية المسار الديمقراطي أو ما يُطلق عليه أحيانا اللعبة الديمقراطية. وحاجة المغرب لمعارضة برلمانية قوية لا تقل عن حاجته لحكومة قوية، وغياب او ضعف المعارضة البرلمانية مؤشر على وجود خطب ما في النظام السياسي.
بالرغم من سهولة تشكيل حكومة ائتلافية قوية من الأحزاب الثلاثة الليبرالية والمحافظة الفائزة في الانتخابات الأخيرة والحاصلة على غالبية المقاعد في البرلمان بحصولها على 270 مقعداً من مجموع مقاعد البرلمان وعددها 395 وأغلبية مريحة في الغرفة الثانية –مجلس المستشارين- مقابل حصول أحزاب المعارضة على 124 مقعدا فقط، وبالرغم مما بين هذه الأحزاب من توافق وانسجام سياسي وأيديولوجي وتماهيها مع سياسة القصر، بالرغم من ذلك فهناك تحدي كبير سيواجه الحكومة والاستقرار في المغرب بشكل عام يتأتى من وجود معارضة برلمانية هشة ومشتتة وغير منسجمة سياسياً وأيديولوجياً، معارضة خليط من أحزاب يسارية وعلمانية وإسلامية وإدارية وبينها تاريخ طويل من الخصومة والاتهامات المتبادلة.
قد يقول قائل إن الشعب عبَّر عن إرادته واختار من يمثله ويجب احترام هذه الإرادة وعلى الاقلية الخضوع لإرادة الاغلبية، وأن حكومة قوية تمتلك أغلبية مريحة ومعارَضة ضعيفة في البرلمان هو الوضع المريح لضمان استقرار الحكومة والنظام السياسي بشكل عام، وهذا كلام صحيح ولكن ليس في جميع الحالات.
الحكومة القوية والنظام السياسي القوي يحتاج أيضا لمعارضة برلمانية قوية تراقب عمل الحكومة ولها القدرة على ضبط وامتصاص غضب الجماهير وتحريك الشارع، إن دعت الضرورة، في إطار القانون واحترام المؤسسات وبما يمنع من اختراق فضاء المعارضة من اية اطراف معادية. وحتى تقوم المعارضة بهذا الدور يجب أن تلمس بأن لديها فرصة للتناوب والتداول على السلطة وليست مجرد ديكور لإضفاء طابع ديمقراطي على النظام السياسي، وقد سبق لرئيس وزراء بريطانيا الأسبق ونستون تشرشل أن قال "لو لم يكن هناك معارضة لخلقناها"، وذلك ادراكاً منه أن لا ديمقراطية حقيقية بدون معارضة حقيقية مؤهلة لاستلام السلطة في الانتخابات القادمة، فضمان تداول السلطة أهم مرتكزات الديمقراطية.
فقد أثبتت التجربة السياسية في المغرب وفي تجارب عالمية أخرى أن معارضة برلمانية ضعيفة وحكومة قوية موالية بالمطلق للقصر قد يُفقِد النظام السياسي درجة من التوازن المطلوب ما بين الحكومة والسلطة من جانب والمعارضة من جانب آخر، وهو توازن سعى إليه الملك الراحل الحسن الثاني منذ الثمانينيات حيث تحدث في أكثر من مناسبة عن تصوره لعلاقة بين الحكومة والبرلمان وبين السلطة والمعارضة ككفتي الميزان بحيث لا ترجح كثيراً كفة على أخرى، وكان الملك الحسن الثاني مدركاً لأهمية وجود معارضة برلمانية قوية حتى يقطع الطريق على أية جماعة سياسية لتمارس المعارضة من خارج قبة البرلمان وخارج المؤسسات الرسمية، وخصوصاً في عهده كانت قوى معارضة غير رسمية وغير قانونية تشكل تهديداً للنظام بل وحملت السلاح ضد النظام والدولة.
لا شك أن البيئة السياسية الوطنية والعالمية تبدلت والمغرب في عهد الملك محمد السادس قطع شوطاً كبيراً في مساره الديمقراطي من خلال تنازلات متبادلة ما بين المؤسسة الملكية وقوى المعارضة مصحوباً بنضج ووعي شعبي ووجود شبه إجماع حول المؤسسة الملكية التي تلعب دور الحَكَم والضامن للاستقرار والاستمرارية، وخفوت حدة الاستقطاب الأيديولوجي الذي كان مصدره بداية الثنائية القطبية الدولية ثم لاحقا صعود الإسلام السياسي في موجة ما يسمى الربيع العربي، كما أن التعديلات الدستورية المتعاقبة منحت للمعارضة البرلمانية مهام وصلاحيات مهمة بغض النظر عن قوتها البرلمانية، فدستور 2011 وفي الفصل 60 استعمل لأول مرة مصطلح المعارضة وخولها مجموعة من الصلاحيات تجعلها شريكاً في وظيفة التشريع والمراقبة ورئاسة اللجان الخ. بالرغم من كل ذلك فإن حديث المعارضة عن وجود تجاوزات وتزوير خلال الانتخابات وتحديات تداعيات الكورونا وأزمة المناخ وانعكاساتها الاقتصادية وزيادة التوتر بين المغرب والجزائر سيضع تحديات كبيرة أمام الحكومة والنظام السياسي ككل ومن هذه التحديات هشاشة المعارضة وعدم تجانسها، فحتى مع الصلاحيات الممنوحة لها دستورياً والحقوق المنصوص عليها قد تكون عاجزة حتى عن القيام بهذه المهام والحقوق بجدارة.
مع إدراكنا لمحورية وأهمية دور المؤسسة الملكية في حفظ التوازنات وتدارك وتصويب ثغرات تنتج عن ديمقراطية صناديق الانتخابات، فإن تخوفات من أن يؤدي ضعف المعارضة البرلمانية لظهور معارضة من خارج أحزاب المعارضة البرلمانية وقد تلجأ هذه المعارضة غير الرسمية وغير المقوننة لأساليب فجة خارج إطار القانون، كما سيكون للشارع ولوسائط التواصل الاجتماعي دور أكبر من دور المعارضة البرلمانية في التعبير عن المطالب الشعبية وتفريغ شحنة الغضب الشعبي تجاه أية إجراءات حكومية غير شعبية.
كان من الممكن الحفاظ على حالة التوازن لو أن أحد الأحزاب الليبرالية والمحافظة المشارِكة في الائتلاف الحكومي -التجمع الوطني للأحرار، الأصالة والمعاصرة، وحزب الاستقلال- تواجد في ساحة المعارضة ليس فقط للحفاظ على التوازن العددي بل أيضا المجتمعي والطبقي.
التحدي لا يقتصر على الحكومة فقط بل أيضا تحدٍ لأحزاب المعارضة البرلمانية، ولا ندري إن كان ما زال من الممكن توحيد أحزاب المعارضة اليسارية والتقدمية تحت قبة البرلمان وتجديد برامجها وقياداتها، وهل يمكن لحزب العدالة والتنمية أن يُعيد استنهاض وتجديد ظاهرة الإسلاموية السياسية في بلد على رأسه أمير مؤمنين؟ بل يمكن أن نتساءل بشكل عام إن كان من الضروري وجود احزاب إسلامية في دول ومجتمعات إسلامية؟ وربما يحتاج المغرب لتشكيل أحزاب معارضة جديدة ملتزمة بالدستور وثوابت الدولة ومتحررة من إرث الماضي.