عبدالله بن بجاد العتيبي يكتب:
لماذا «يوم التأسيس» مهم؟
إعلان السعودية عن الاحتفال السنوي بيوم التأسيس حدثٌ بالغ الأهمية لا في تصحيح التاريخ فحسب، بل في التعامل مع الواقع وبناء المستقبل، فشرعية الدول تتطور مع تطوُّر المعطيات وتغير التاريخ، وتاريخ المسلمين يعلمنا أن «الدولة الأموية» عجزت عن تطوير شرعيتها وانتهت في عقودٍ، بينما «الدولة العباسية» استطاعت المحافظة على التطوير المستمر فدامت قروناً متطاولة.
الإمام محمد بن سعود، مؤسس الدولة السعودية الأولى، جدير بالاهتمام حقاً، ويجب التذكير بمكانته المتفردة التي امتلكها من دون جميع معاصريه بشتى تصنيفاتهم، وقد كانت لحظة استقطابه للداعية محمد بن عبد الوهاب لحظةً مهمةً في تاريخ الدولة، وهي تُحسَب له وعياً وقراراً؛ فقد اختار الإمام بوعيٍ أن يستقطب الشيخ، وله سلفٌ في هذا، في جدّه (إبراهيم بن موسى) أحد شيوخ الدرعية مع الشيخ الحنبلي المعروف (أحمد بن عطوة)، ونتيجةُ ذلك الوعي والقرار يشهد بها التاريخ والواقع المعيش، و(إبراهيم بن موسى) شيخ الدرعية تمّ ذكره قديماً في الوثائق العثمانية، بحسب ما أشار له الدكتور راشد العساكر، حين استخرج الوثيقة ونشرها.
المسائل المعقدة لا تستعصي على العلم والتحليل والبحث، ويمكن بالعقل والحكمة تناول تلك المسائل والغوص فيها وتحليلها بعيداً عن التعصب والحماسة، ومن ذلك التفريق بين «الدولة» و«الدعوة»؛ فهي مسألة تنبع أهميتها من إعادة بناء التاريخ بشكل أقرب للدقة والموضوعية بلا تقليل من دور «الدعوة»، ولكن بالتركيز والتأكيد على دور «الدولة»، وبخاصة مع الانحراف الكبير في ذلك التاريخ عبر مراحل مختلفة لأسباب معروفة، إنْ في كتابات المؤرخين التقليديين أو في كتابات المؤرخين المؤدلجين بآيديولوجيا حركات وتنظيمات الإسلام السياسي، مع عشرات السنين من سيطرتهم على مؤسسات تعليمية وبحثية وثقافية وإعلامية، وهؤلاء قد ينحنون للعاصفة ولكنهم لا يتراجعون، وسبق لكاتب هذه السطور الكتابة في هذه المساحة عن «إخوان السعودية.. المقولات الجديدة»، وفيما يجري بعد الإعلان عن «يوم التأسيس» تجد نموذجاً واضحاً لما تمت الإشارة إليه في تلك المقالة.
«الدولة والدعوة» و«الأمير والشيخ» و«السلطان والفقيه» هي عبارات تتحدث عن ثنائية العلاقة التي تربط بين الجهتين في التاريخ الإسلامي، وهي علاقات مختلفة ومتنوعة، وفي السياق السعودي، فقد كان محمد بن سعود مهتماً بتوحيد الوطن والدولة، وكان محمد بن عبد الوهاب معتنياً بتوحيد الخالق، والأمير مقتنعٌ بهذه «الدعوة»، وأصلها، وقد خدمت دعوة «الشيخ» طموح الأمير ورؤيته، وامتدت العلاقة بين أحفاد الأمير وأحفاد الشيخ إلى اليوم.
كان محمد بن سعود مؤمناً كامل الإيمان بمشروعه ورؤيته ووقف معه «الشيخ» و«التاجر» و«زعيم القبيلة»، وقد قتل بعض أبنائه في معارك التوحيد، وهما فيصل وسعود ابنا محمد بن سعود، وأكمل ابناه الآخران «الإمام عبد العزيز» و«عبد الله» والد «الإمام تركي» مؤسس الدولة السعودية الثانية.
كتب ابن خلدون وأطال عن «العصبية» و«الدولة» في جدل طوي، ومعروف ليس هذا مجال الإفاضة فيه، والمهم في هذا السياق هو أن «محمد بن سعود» لم يدعُ يوماً إلى عصبية قبلية أو مناطقية، بل كان طامحاً إلى دولة قويةٍ وكيانٍ جامعٍ بعيداً عن صراعات «المدن» و«القرى» و«القبائل» المحلية، وأخرج البلاد من تلك الصراعات الضيقة إلى سعة الرؤية.
بسبب الظروف التاريخية، فقد كانت أسهل الوسائل لبناء آيديولوجيا الدولة هي «الدعوة»؛ فلم يكن ثمة خطابات قادرةٌ للوصول إلى الكافة غيرها، ومن الخطأ الحكم على ظروف تاريخية بناء على ظروفٍ تاريخية مختلفةٍ تماماً، ومن أخطاء «الدعوة» تبنيها لآيديولوجيا «الولاء والبراء»، والتوسع فيها والتشدد في تفاصيلها، وهي آيديولوجيا المعارضة السياسية في التاريخ الإسلامي، في مقابل آيديولوجيا «الطاعة» التي تتبناها «الدولة».
ظلت الثورات أو الفتن تتعاقب في التاريخ السعودي، بسب عدم الفصل بين الآيديولوجيتين، وحركة «إخوان السبلة» و«جماعة جهيمان» و«تنظيم القاعدة» كانت تنطلق من آيديولوجيا «الولاء والبراء»، ومن قبل ومن بعد استخدمتها «جماعة الإخوان المسلمين» و«جماعة السرورية» لترويج أفكارهم بغطاء سلفيٍ، وهذا نموذجٌ واحدٌ لما يمكن لعدم الحسم في التعامل مع التاريخ والأفكار من أثرٍ واقعيٍ ومستقبلي كبير.
لم يكن «الداعية» أميراً، ولم يكن «محارباً» أو «قائداً عسكرياً»، ولم يكن «تاجراً»، بل كان داعيةً، والدعوة نفسها لها ما لها وعليها ما عليها، ولكنها لحدّتها وقوتها كانت «مفيدة» جداً في تأسيس الدولة، ومع الإقرار بأن «الدعوة» تهذّبت مع استقرار الدولة وتطورها، إلا أنها بحاجة لإعادة القراءة والتأويل في ظل تغير الظروف بشكل هائل، كما تهذبت «القبلية» و«المناطقية» وغيرها من المعطيات والظروف التي تتطور بشكل طبيعي في مسار التاريخ.
من فوائد الدعوة نشر «التوحيد» ورفض «الخرافات» التي عششت طويلاً في أذهان المسلمين، وتعاني منها كثيرٌ من الشعوب، مسلمين وغير مسلمين، حتى يومنا الحاضر، والخرافة عدوة العقل ومعيقة التنمية والتطور، وقد طوّرت «الدعوة» خرافاتها الخاصة ضمن مسار تطور الأفكار الطبيعي، وهذا مجال آخر.
التغيير والتطوير على طول التاريخ والجغرافيا يواجَه برفضٍ أو ممانعةٍ أو معارضةٍ، ولكن الدول القوية والناجحة تتجاوزها جميعاً وتنطلق لمستقبلها، والسعودية تشهد طفرةً تاريخية في جميع المجالات، وهو ما تشهد به القرارات والسياسيات والأحداث داخلياً وإقليمياً ودولياً، ويمكن للمراقب والمتابع أن يكتشف بسهولةٍ أن التاريخ يُكتب من جديد في السعودية، وهذا حكمٌ محايدٌ جداً شهد به الأعداء قبل الأصدقاء، وتتحدث به الأرقام والإحصائيات.
السعودية دولةٌ قائدة ورائدة إقليمياً، ومؤثرةٌ بشكل بالغٍ دولياً، وهي مع «رؤية 2030»، وعرّابها، ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، تقدم نماذج مبهرةٍ في التعامل مع جميع الملفات والقضايا، و«يوم التأسيس» وأبعاده المتعددة يأتي ضمن هذه الرؤية. وقد قدّمت السعودية نموذجاً قوياً في مكافحة الفساد المالي تحدّث عنه العالم، وما يجب أن يستحضره بعض الممانعين لترسيخ «الوطنية» وعودة «الدولة» لنفسها هو أن «الفساد» ليس مالياً فحسب، بل ثمة فسادٌ إداري تتّبعه «الدولة»، عبر «هيئة الرقابة ومكافحة الفساد»، وفكري وثقافي تتبعه «مؤسسات الدولة» القائمة، أو التي ستستحدث ضمن آليات «رؤية 2030» المعلَنة وبرامجها، وستصل ركائب الرؤية لغاياتها، وسيدفع المعاندون الثمن.
أخيراً، فالدول القادرة على التجدّد والتطوير بقوةٍ وحزمٍ وحكمةٍ تغيّر التاريخ وتطوّر المجتمعات وترفع من قيمة الأفراد، والسعودية خير مثالٍ.