د. علوي عمر بن فريد يكتب لـ(اليوم الثامن):

ذكريات من زمن الطيبين

تحتشد في رأسي عشرات الأسئلة عن ذلك الزمن الجميل وأهله الطيبين رغم أنه ماض لن يعود وقد ولى مع أهله إلا أنه لازال حيا في القلوب!! ؟
لماذا نستجر الذكريات ونسترجع صور الماضي الذي عشناه في طفولتنا ومطلع شبابنا ونحن إليه ؟
لماذا نحفر الذاكرة وخلاياها الساكنة لاستعادة شريط الحياة الجميلة التي عشناها وهي قد ولت مع بساطتها وسعادتها ؟
ولماذا نصف ذلك الزمن بزمن الطيبين ؟
هل فعلا انقرض الطيب وأهله مع بساطتهم من حياتنا ولم يعد لهم وجود؟ أم هو حنين لزمن ولى مع أهله ولم يبق منه إلا الصور المعلقة في خلايا الذاكرة وجدران البيوت ونتذكرها و نستعيدها عندما نتألم ونرى ونسمع عن الأحداث الدامية الحية التي تجوب الوطن كله اليوم ؟؟!!
وعندما نحاول تفسير ما يجري من أحداث اليمة يتبين لنا أنه لا وجه للمقارنة بين الأمس واليوم !!..
ونسأل أنفسنا : هل هو هروب من الواقع الأليم وأزماته التي تلاحقنا ونعيشها اليوم..؟ وما يجري فيه من قتل وحروب ودمار وسفك للدماء ونهب وسرقة؟
وتحاصرنا الأسئلة : هل حقا ماتت الضمائر وغابت الأخلاق والصفات النبيلة و حل محلها الغدر والخيانة !!؟
هل تبدل الزمن أم تبدل الناس في هذا الزمن الأغبر؟؟!!
هل فعلا خلا زماننا اليوم من الطيبين ؟ أم أننا لم نعد نرى فيه ما كنا نشاهده في الزمن الغابر من سعادة وشهامة ورحمه وبساطة ؟
أم أننا لا زلنا مسكونين بالماضي الذي غابت شمسه ؟؟ وهل لازالت المقولة الشهيرة عالقة في أذهاننا(من ليس له ماض ليس له حاضر ) ؟؟
أسأل نفسي ما هي ذكريات أطفالنا اليوم التي قد يعودون أليها مستقبلا ؟ وماذا بقي لجيل اليوم الذي يصحو وينام على أجهزة الايباد والهواتف النقالة والبلاي ستيشن ولا يتحرك من فراشه إلا لمائدة الطعام ثم العودة لفراشه الوثير!!؟؟
ويعيش أسيرا وحيدا مع تلك الأجهزة ..؟؟
جيل يشاهد الموت والرعب في وسائل التواصل الاجتماعي وشاشات التلفزيون ..وأحيانا على الطبيعة حتى أنها لم تعد تؤثر فيه واعتاد عليها حتى تبلدت مشاعره وأحاسيسه وقد يمارسها عندما يكبر دون أن تهتز له شعرة !!
وبالمقابل سيكون نتاج تلك الشخصية خليط من الطمع والسادية والتلذذ بممارسة تعذيب الآخرين فقط ليستولي على ما في أيديهم !!
وبقدر ما كان جيلنا صلب الإرادة إلا أنه رقيق المشاعر رحيما عطوفا مع الناس الطيبين وتربى على أيديهم بالحب والتسامح .. جيل كان يمشي حافيا يخترق الشوك أرجله وترتطم أصابعه بحجارة الطريق حتى تسيل دماؤه ..ولكنه جيل لا يبكي رغم الألم .. فقط كنا نبكي إذا تفوق علينا رفاقنا في المدرسة وأحرزوا العلامات العالية و المراكز الأولى .
كنا نسكن بيوتا من طين تسكنها المحبة .. دون مكيفات.. ولا أجهزة رقمية ..ولا فضائيات ..كنا نشرب من الزير أو من الغروب الجلدية المعلقة في سطوح المنازل وطعمه ومذاقه أطيب مئة مرة من ماء الصحة المعبأ في المصانع الحديثة والقناني الملونة !!
النساء يذهبن إلى سفوح الجبال في مواسم الأمطار ليملئن الغروب من الشلالات من ماء ( الكرع ) وهو المفضل لطعمه المميز.. وكانت العرب في الزمن القديم يسمونه بالماء القراح !!
وفي موسم الأمطار كانت لنا ذكريات في الأودية والسواقي عندما نتسابق أو نسبح في الغدران.. ثم نصطاد العصافير والطيور المهاجرة في مواسم الحصاد ويجلدنا مدير المدرسة عقابا على السباحة خوفا علينا من البلهارسيا المنتشرة في تلك المياه خاصة الراكدة منها !!
زمن ولى ولكنه لازال يعزف ألحانه وأشجانه في آذاننا وجدران القلوب ولازالت الذاكرة تردد أصداء وأهازيج الحصاد وطبول الأفراح ومواكب الفرح والنور وأناشيد الصباح المدرسية .. وترانيم الدعاء والإبتهالات في المساجد في المناسبات والأعياد ..ذكريات ولت لكنها لازالت حية في القلوب !!
عشقك يا وطني لا ينتهي.. ينبت على ثراك ويسكن الوجدان كزهور البشام التي تنمو في الشواهق من الجبال النايفات ...كالزهور البرية والرياحين والمشموم الأبيض الذي يزين مداخل البيوت الجميلة.. ولا يضاهي جمالها إلا الأطفال الذين تفتحت أعينهم على ثراك يا وطني تماما كزهرة (البيبيش ) الصفراء الجميلة التي تنبت في الصخر أتطلع إليها ولا أصل إليها ...عندما كانت تقودني خطاي صغيرا إلى وادي مربون الذي يهدر فيه السيل في غبش الصبح.. وليالي الصيف.. ويجلب الطمي والخير للمزارع والحقول ...نلعب في أطراف الوادي حتى يتراجع تدفق السيل ..نمرح ونتسابق ..وإذا انقطع السيل تظهر السيلة الحمراء كطقعة سجاد ملونة بديعة نتسابق عليها ..ونقفز من صاع الحاموره إلى أسفل الوادي..كنت واحد من الأطفال الصغار الذين عشقوا ثراك.. وكنت مع أترابي نسابق الفراشات الملونة على أطراف السواقي ..وفي فصل الشتاء كنا نلاحق الطيور الصفراء والخضراء والزرقاء والبيضاء وكل الطيور المهاجرة الجميلة التي تحط رحالها في الوادي في فصل الشتاء كل عام .. بعد رحلة طويلة عبر القارات والبحار.. نراها وهي تحلق في السماء أسرابا ثم تهبط تدريجيا وتتعلق بأغصان العلوب وتتأرجح معها .. ثم تنتشر في" الأوصار" أو كما تعرف بالبيادر التي تجمع فيها محاصيل القمح من المزارع ..تلتقط ما سقط من حبوب القمح .. .. وفي الصيف تتمدد ألوان الطبيعة الخضراء من حولي أشم رائحة حماط الدخن وذنين السدر بزهوره البيضاء الصغيرة ذات الرائحة العطرية .. وأسمع دوي النحل وهو يجني منها ويبني الشمع ويسكب الرحيق والعسل في خلاياه .. ولا يكاد يخلو بيت في وادي يشبم من جبوح النوب (خلايا النحل )..أشم رائحة السيل وشذى أشجار الجبال التي تطوق مدينتي الجميلة (الصعيد) في وادي يشبم ... كنا نتسابق مع رفاق الصبا والطفولة والبراءة طلوعآ ونزولا إلى راحة البئر ..عندما نشاهد الحسناوات يسحبن الماء بالدلو وهن يرددن الأهازيج بالحان جميلة ثم يملأن الغروب ...نتسابق من قاع الوادي إلى الأعلى لكي نشرب من أيديهن الناعمة المطلية بالهرد والورس ...ومن السواعد البضة الجميلة البيضاء والوجوه المشرقة الفاتنة التي تتفتح الحمرة في وجناتهن كورود الربيع ...نتسابق أمامهن ونحن في سن الصبا ولسنا في حاجة الماء ولكن للارتواء من ذلك الحسن والجمال والضحكات والابتسامات ..ونعود وأنفاسنا معطرة بشذى الجمال والطيب الذي يفوح من أعطافهن ...ذكريات جميلة عشناها ..وقلوب خالية صافية نقية تنضح بالعفوية والبراءة ...كنا نرى كل شيء بالألوان الطبيعية الخلابة .. ذلك عنوان الحياة في زمن كان عشق الوطن بكل تفاصيله ومفرداته و كل ما يتحرك على ترابه هو عشقنا .. هو كل شيء لنا .. نختزل فيه كل معاني الجمال والبساطة والعفوية وحسن الظن والنية الطيبة والبراءة الممزوجة بالمحبة الخالصة .
وفي الختام لا مقارنة بين جيل الأمس واليوم !!
د. علوي عمر بن فريد