د. علي الخلاقي يكتب:
النظام الدفاعي المُحكَم ميزة العمارة اليافعية التقليدية
أكثر ما يميز العمارة اليافعية القديمة هو النظام الدفاعي شديد الدقة، فقد اتسمت منذ القِدَم ببناء القلاع والحصون في الأماكن المرتفعة، لمراعاة الأمان، لأن طبيعة الحياة وقساوتها في الماضي، وأخطار الغزوات الخارجية والحروب والفتن وأخطار السيول الجارفة، جعلتهم حذرين دائماً ومن يكون بيته في الأعلى يشعر بأمان كبير، ويمتلك أفضلية تجاه جاره الأسفل فيما اذا نشأ بينهما خلاف أو نزاع. وقد كانت معظم القرى تُشيَّد على نُشوز عالية أو على قمة أو أكمة (لَكَمة) أو قُلَّة جبل مرتفعة معزولة يصعب الوصول إليها وهذه الحماية الطبيعية تُعزَّز ببناء أسوار وحصون لحمايتها من أية مخاطر خارجية مباغتة.
ويمكن القول أنها أشبه بحصون وقلاع عسكرية منيعة فيها جميع الاستحكامات الدفاعية، بما في ذلك وجود فتحات أو مَزَاغل خاصة لرمي الرماح أو توجيه البنادق منها، تُعرف بـ"العُكَر"، بما في ذلك مزاغل أفقية لصب السوائل المحرقة او الزيوت الحارقة على من يحاولون تحطيم باب البيت أو محاولة اقتحامه. كما كانت البيوت القديمة عبارة عن كتل معمارية متراصة ومتلاصقة بجانب بعضها البعض لمقتضيات الأمن والتعاون عند الخطر، بحيث يمكن للمرء أن يتنقل من سطح لآخر بسهولة عند الحاجة، وكانت الأسوار أو كما تُسمى محليا "الدَّرب-وجمعها دِرُوب" من أهم التحصينات الدفاعية تحوطاً من التعرض لهجوم مباغت، ولهذا كانت الحصون أو القرى تُحاط بسور طبيعي يُستكمل في بعض جوانبه بالبناء، وكانت لبعضها بوابات تتحكم بالدخول إليها أو الخروج منها، بل أن لبعضها بناء مسقوف يسمى (سّقيفة) تمتد تحت بيت أو أكثر ولها بوابتان، داخلية وخارجية، يعلو كل منها عقد حجري يسمح بدخول الأحمال على ظهور الحيوانات كالإبل والحمير. وكانت تتواجد فيها صهاريج المياه ومدافن الحبوب وكل مستلزمات الحياة. ونادرا ما ينفرد البعض في الماضي في البناء بعيداً عن القرى خوفاً من عواقب الحروب الثأرية التي شملت القبيلة والأخرى والقرية وجارتها.
كانت المناعة الدفاعية هي الاهتمام الأساسي، لهذا السبب كان يتم بناء بعض المدن والقرى في مواقع لم يكن الوصول إليها ممكنا إلاَّ عبر طرق شديدة الانحدار (بعضها ما زال قائما حتى اليوم) وتم تبليطها بالحجارة المرصوصة في الحيود أو الجبال على ارتفاع عدة مئات من الأمتار. وتوجد براعة جديرة بالاعتبار في تخطيط مواقع البناء ومهارة في تكييف مختلف المواقع بصورة خاصة. وذلك ما زال ملاحظاً في البناء الحديث إلى حد كبير نتيجة الرغبة لزيادة الخصوصية والخلوة واحترام تقليدي لعُرف اجتماعي يمنع التعدي على المنازل المجاورة، فضلا عن ذلك فإن البيت الذي يشرف على مناظر فريدة فوق المرتفعات الجبلية والمنحدرات الخطرة يحظى دائماً بمقام ومنزلة رفيعتين. ويعتبر موقع مباني القرية القديمة للعياسى وموقع منزل الشيخ علي عبدالله العيسائي في جبل أحرَم أمثلة رائعة على تفضيل اليافعي للارتفاعات الشاهقة. لهذا السبب فإن المدن والقرى نادراً ما تحتاج إلى أسوار حماية، كل منزل كان محصن مسبقاً بالجدران الحجرية والصخور الطبيعية. وكان بناء الدَّرب يضيف طبقة حماية إضافية حول المنزل.
ومثال ذلك أيضاً قلعة (القارة) الحصينة، حاضرة السلطنة العفيفية على مدى أربعة قرون منذ تأسيسها سنة 942هـ /1535م وحتى عشية الاستقلال 30نوفمبر 1967م فهي تقف فريدة الشكل على ذروة جبل شاهق، وتبدو من بعيد كإناء مقلوب ذو قاعدة دائرية، نحتت جوانبها عمودياً، بحيث يتعذر تسلقها، عدا في الجزء الشرقي من الجهة الشمالية ، عند الصخور أسفل "دار الدَّرك"، وقد تم تحصين هذا الجانب وحمايته بجدار حجري. ويتم الصعود إليها عبر (السدّة) البوابة الوحيدة بواسطة درج منحوت في الصخر في بعض أجزائه والأخرى مبنية، وكل هذا أعطى القارة وقمتها التحصين الطبيعي وجعل منها قلعة حصينة على مدار تاريخها( ).
ومن القلاع الحصينة أيضاً قصور سلاطين آل هرهرة التي شُيدت في حاضرتهم "المَحجَبَة" في أعلى قمة جبلية حصينة، خطرة المرتقى، ولا يمكن الوصول إليها إلا من بوابة واحدة، فيما بنيت في أسفلها بقية مباني سكان المحجبة وكذا المسجد القديم بمئذنته التاريخية ذات النقوش والزخارف الجميلة. أو عاصمتهم الأخرى في جَبَل (حِلْيَن) المجاور لجبل العـر، حيث شـيّـد السلطان صالح بن عمر في قمته قصراً حصينا، قبل اغتياله عام 1949م بسنوات قليلة، وظل ذلك القصر قائما مع ملحقاته حتى هدمته فرقة من الجبهة القومية مطلع عام 1967م أثناء سيطرتها على السطلة في المنطقة.
وتتميز بعض الحصون في القرى القديمة بمسمياتها الخاصة التي عُرفت بها، ففي القارة نجد اسماء "دار السعادة، دار السعد، دار الدّرك، دار غمزان، دار لقواد" وفي السائلة- ذي ناخب "دارالمشتبح" وفي معزبة آل بن علاية، في وادي العرقة، بذي ناخب، نجد اقتباس بعض مسميات حصون القارة، ففيها أيضا :"دار السعد، دار الدّرك" ، وفي " تي اللُّب" تشمخ قصور قديمة يتراوح عدد طوابقها ما بين تسعة إلى عشرة طوابق بنيت فوق جبل صخري، ويزيد عمرها على ثلاثة قرون، ولها اسماء خاصة بها مثل: الزاهي ، الباهي، الناهي..الخ.
ونجد في معظم القرى الجبلية القديمة، التي اندثر بعضها، أن البيوت كانت متلاصقة ببعضها وكل منزل فيها يشكّل جزءا من السور، حتى لتحسب القرية القديمة بناء واحداً لتقاربها واشتراك معظمها بالجدران، وهذا يعود لروح التكافل والتآلف الاجتماعي وانحصار القرى ضمن الموقع الجبلي الحصين الذي يمثل سورا طبيعيا، كما تعكس أسلوب الحياة غير الآمن في الفترات التاريخية السابقة، ولهذا السبب كانت الأدوار الأولية تخصص للمخازن واسطبلات للماشية، وتكون الأدوار العلوية للسكن والضيوف.
أما في البناء الحديث فلا يفضل الناس الأماكن المرتفعة كثيرا، إلاّ فيما ندر، لتواجد شروط الأمان الذي ارتبط بنشوء الدولة الحديثة بعد الاستقلال الوطني، وهم الآن يتجهون إلى جوانب وضفاف الأودية والمواقع المستوية بالقرب من طرق السيارات وأضحت بعض القرى المشيدة في القمم المرتفعة شبه مهجورة، وبيوتها وحصونها عرضة للإهمال، ومع ذلك نجد أن الناس في الوقت الحاضر يؤثرون العزلة والبعد عن الجيران، أو إحاطة البيت بسور عازل ، يفصله عن محيطه.
من كتابي(فنون العمارة الحجرية في يافع)
والصور بعدستي