علي الصراف يكتب:
الإرهاب ومكافحته على محمل واحد في اليمن
عادت الولايات المتحدة لتحمل الإرهاب الحوثي ومكافحته على محمل واحد من جديد.
وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن أوفد مبعوثا جديدا إلى السعودية والإمارات لكي يُحمّله رسالة يعرب فيها عن “قلقه من سقوط ضحايا في صفوف المدنيين في اليمن، وتدين الهجمات التي تشنها جميع الأطراف والتي تؤدي إلى التصعيد وإطالة أمد الصراع”.
“جميع الأطراف”، هو المفتاح الرئيس في تلك الرسالة. وهو مفتاح يكرس العمى عن حقيقة أن الحوثي هو الذي ظل يرفض محاولات السلام، وعن حقيقة أنه ينقل الصراع إلى خارج اليمن.
وعندما التقى بلينكن بالمبعوث الأممي إلى اليمن هانز غروندبرغ شدد مرة أخرى “على الحاجة الملحة إلى وقف التصعيد وقيام جميع الأطراف بالتقيد بالتزاماتها بموجب القانون الإنساني الدولي، بما في ذلك الالتزامات المتعلقة بحماية المدنيين”.
هكذا لم يعد هناك فرق بين طرف وآخر. وأصبحت “الإنسانية” ذريعة للتغطية على موقف متخاذل ظل ينظر إلى الأزمة في اليمن بمنظار ذي عين واحدة، وظل يعجز في الوقت نفسه عن رؤية الواقع بوضوح.
ولكن لن يمضي وقت طويل حتى تكتشف الخارجية الأميركية والأمم المتحدة أن الحوثي هو الذي يقف حائلا دون التوصل إلى حل سياسي للأزمة في اليمن. وأن هذه الجماعة، مدفوعة من إيران، تريد أن تواصل الحرب على حساب حياة الملايين من اليمنيين. وأنها اختارت أن تسحقهم بالفقر والمرض، لكي تحافظ على ما استولت عليه من دون وجه حق. وأن تجعلهم ضحية لمشروع توسعي أبعد ما يكون عن مصالح اليمن.
سيكون من الواجب على الخارجية الأميركية أن تقول لماذا فشلت مقاربتها في اليمن. وكيف أنها عجزت عن أن تجعل من مشاغلها الإنسانية مدخلا لحل إنساني فعلي
لقد فشلت جهود ثلاثة مبعوثين للأمم المتحدة، هم المغربي جمال بن عمر، والموريتاني إسماعيل ولد الشيخ أحمد، والبريطاني مارتين غريفيث. وها أن الرابع السويدي هانز غروندبرغ يجرب حظه، مسبوقا بجهود بريت ماكغورك منسق الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مجلس الأمن القومي الأميركي.
والأساس في الفشل المتكرر هو أن الحوثي الذي حاول الاستيلاء على مقاليد البلاد منفردا لا يريد الاعتراف بوجود سلطة شرعية، ولا يريد التفاوض على حل سياسي يقلص من هيمنته على بعض أجزاء اليمن، ولا يريد الاعتراف بحقيقة أن اليمن قائم على أسس الشراكة بين مكوناته الاجتماعية لا هيمنة طرف على باقي الأطراف. كما لا يريد الاعتراف بهزيمته العسكرية أيضا.
لا تريد هذه المجموعة أن تفهم أن اليمن لا يصلح لأن يكون تابعا لإيران. ولا أن تفهم أن إيران ليس لديها ما تقدمه. وأنها لا تعد اليمن بأكثر مما وعدت غيره، من الشقاق والفساد والفشل الاقتصادي.
الحوثي يتصرف كمجموعة إرهابية لأنه تخلى منذ وقت بعيد عن فكرة أنه طرف سياسي بين أطراف أخرى. ولهذا السبب يرفض الحوار، أو يتعمد تعكيره إذا خاض فيه، لكي لا يتم التوصل منه إلى نتيجة. وإذا أمكن بناء اتفاق فإنه يرفض الامتثال له وتنفيذه.
فالعقلية الإرهابية هي التي تدفعه إلى اعتقادِ أنّ أي اتفاق هو “مؤامرة”، وأن التنازلات المتبادلة “خيانة”، وأن وقف الحرب “هزيمة”، وأنه طالما ظل يقاتل فإنه “منتصر” حتى ولو لم يبق له إلا كهف أخير.
السياسة، من كل تجربة التحاور مع الحوثي، هي التي سقطت، لأنها تعني حلولا وسطا وتقاسما للمصالح والأدوار وركونا إلى معايير مؤسسية مستقلة وقبولا بمبدأ الشراكة. وهذا مما لا يتوافق مع نظرة الإرهاب إلى نفسه.
يريد الحوثي، فوق ذلك، أن يواصل أعماله الإرهابية ضد دول الجوار. وأن يفرض هيمنته على باقي اليمن، بالقهر والقوة، لكي ترتفع راية المشروع التوسعي الإيراني.
ولا شيء غامضا في المشروع الذي حمله الحوثي لليمن. إنه مشروع لقهر اليمن وتمزيقه وتخريبه وإفقاره، على غرار ما يحدث في كل مكان وطأته أقدام إيران.
النتيجة التي خلص إليها المبعوثون الدوليون الثلاثة هي نفسها التي سوف يخلص إليها المبعوث الرابع، رغم التمنيات له بالنجاح.
الدعوات لوقف إطلاق النار فشلت، لأن تلك الجماعة رفضت الامتثال لها، مرة بعد أخرى. وهي ظلت تستخدم فترات الهدنة المحدودة لتعزيز قدراتها العسكرية من أجل شن هجمات جديدة، بل إنها استغلت القلق الدولي بشأن التكلفة الإنسانية الباهظة لاستمرار الحرب، ليس من أجل السماح بوصول مواد الإغاثة إلى المحتاجين، بل من أجل الاستيلاء عليها. وحتى عندما تعمدت السعودية والإمارات والأمم المتحدة أن تغدق في تقديم المساعدات، لعلها تصل إلى الجميع، تعمّد الحوثي استخدامها لتغذية ميليشياته ومنع وصولها إلى المناطق التي تقع على خطوط جبهات القتال.
لا أحد يريد الحرب في المنطقة، إلا طرف واحد. ولا أحد يريد الحرب بين اليمنيين إلا طرف واحد أيضا. هذا الطرف الواحد لا تهمه حياة البشر، ولا استقرار أوطانهم
وقفٌ آخر لإطلاق النار لا يزال ممكنا. وجهود إضافية من أجل إحلال السلام سوف تظل تحظى بالدعم والترحيب من قبل التحالف العربي الذي تقوده السعودية، وكل دول العالم الأخرى. وهناك قاعدة واسعة لاتفاقات سياسية تم التوصل إليها بين الأطراف اليمنية المختلفة في الرياض والطائف وستوكهولم، يمكن الركون إليها. كما يمكن اجتراح اتفاق جديد في أي مكان آخر في العالم، بما في ذلك مبنى الخارجية الأميركية في واشنطن أو مبنى الأمم المتحدة في نيويورك.
إلا أن النتيجة ستظل هي نفسها. لأن الإرهاب لا يتغير بالحوار. ولأنه، بطبيعته، لا يقبل التسويات السياسية أو الحلول الوسط.
لا أحد يريد الحرب في المنطقة، إلا طرف واحد. ولا أحد يريد الحرب بين اليمنيين إلا طرف واحد أيضا.
هذا الطرف الواحد لا تهمه حياة البشر، ولا استقرار أوطانهم. ولا يفهم القلق الإنساني على نحو ما نفهمه. ولا يستسلم إلا إذا شرب كأس السم بالهزيمة المنكرة.
يستطيع غروندبرغ أن يجرب حظه. ولسوف يلقى كل دعم ممكن، وتلاحقه أطيب التمنيات من كل دول المنطقة والعالم (إلا واحدا). ولكن سيكون من المفيد، في النهاية، أن يقول لماذا انتهت مهمته بالفشل.
سيكون من الواجب على الخارجية الأميركية أيضا أن تقول لماذا فشلت مقاربتها في اليمن. وكيف أنها عجزت عن أن تجعل من مشاغلها الإنسانية مدخلا لحل إنساني فعلي.
ولعلها تستطيع ألا تكتفي بجهود غروندبرغ وحده، فترسل إلى الحوثي مبعوثها إلى المنطقة ليتفاوض مع هذه الجماعة بنفسه على تطبيق أي اتفاق من اتفاقات السلام التي تعيد الشرعية، أو تعيد تأسيسها من جديد.
وعندما يفشل لعله يكون من المنصف تماما أن يترك اليمنيين يداوون جراحهم بأنفسهم.
هذا هو الحل الإنساني الوحيد. صحيح أنه يعني المزيد من الضربات العسكرية. ولكنها مثل كل الحروب الأخرى، تبني سلاما لا يحمل الإرهاب وضحاياه على محمل واحد.