د. صبحي غندور يكتب:

محاولة لإنعاش ذاكرة اللبنانيين!

تُرى، لماذا تُمارَس الديمقراطية في لبنان فقط من خلال التوريث السياسي القائم على الحصص الطائفية والمذهبية؟ ثمّ لماذا "تنتقل البندقية من كتفٍ إلى كتف" على جسم هذا الزعيم أو ذاك، وتتغيّر تحالفاته الإقليمية والدولية، لكن لا يجوز عنده تغيير النظام السياسي الطائفي؟ أليس حالٌ كهذا هو المسؤول عن الاستقواء بالخارج كلّما دعت الضرورة؟ ألا يجعل هذا الأمر من لبنان مزرعةً لا وطن؟ ويحوّل الناس من شعبٍ إلى قطيع يُساس ثمّ يُذبَح عند الحاجة؟! أوَليس ذلك هو السبب الأول لكثرة التدخّل الإقليمي والدولي في الساحة اللبنانية؟ فعطب الدّاخل هو الذي سهّل دائمًا تدخّل الخارج، وبإصلاحه تتعطّل فاعلية التأثيرات السلبية الخارجية، وبذلك أيضًا ينتقل لبنان من حال المزرعة والقطيع إلى لبنان الوطن والمواطنة.

إنّ لبنان يشكّل "حالة نموذجيّة" فريدة في المنطقة العربيّة. فهو كان، قبل بدء الحرب الأهلية في 13 نيسان/أبريل 1975، نموذجًا للعرب في ممارسة الحياة السياسية الديمقراطية، والتعدّدية الحزبية، والانفتاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ولمجتمع الحرّيات العامّة بشكلٍ عام.

لكن بعد اشتعال الحرب الأهلية في منتصف سبعينات القرن الماضي، انكشفت مساوئ هذا "النّموذج اللّبناني" وما كان فيه من أمراضٍ طائفية، هدّدت الجسد اللبناني أكثر من مرّة بخطر الانتحار الداخلي أو القتل المتعمّد من الخارج.

ودارت الأعوام والأحداث في لبنان حتّى رست على صيغة اتّفاق الطائف عام 1989، والتي أثمرت وفاقًا لبنانيًّا مدعومًا بوفاق دولي/عربي على إعادة إحياء التجربة اللبنانيّة القديمة بطبعة جديدة منقّحة! وهكذا عاد "النموذج اللبناني الصّالح" إلى الوجود بالمنطقة العربيّة، رغم التشوّه الذي حدث له بفعل سنوات الحرب في حقبتيْ السبعينات والثمانينات. وعلى مدار ربع قرن من الزمن (من العام 1975 إلى العام 2000)، كان الخنجر الإسرائيلي هو الأكثر إيلامًا في الجسم اللبناني، بل كان هذا الخنجر المسموم يستهدف قتل "النموذج اللبناني" الذي أعطاه عام 1974 من على منبر الأمم المتّحدة الرئيس اللبناني الرّاحل سليمان فرنجية، كبديل عن الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين وكنموذج لتعايش الطوائف المتعدّدة في ظلّ دولة ديمقراطية واحدة.

وقد استطاعت المقاومة اللبنانية، التي برزت عقب الاجتياح الإسرائيلي لبيروت عام 1982، أن تردع هذا الخنجر وأن تقطع يد الاحتلال التي حملته، فكان الانتصار اللبناني على الاحتلال الإسرائيلي عام 2000 بدايةً لنموذج لبناني جديد في المنطقة العربيّة وفي الصّراع العربي الإسرائيلي. فإذا بتعبير " اللّبننة " يتحوّل من معنى الإنذار بحربٍ أهلية والتحذير من مخاطرها، إلى معنى المقاومة النّاجحة ضدّ الاحتلال والقدرة على دحره.

لكن لبنان في العام 2005، وبعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، بدأ يتأرجح بين دفّتي الانقسام والفوضى، وأصبح المستهدَف الأوّل (بدلالة حرب صيف العام 2006) هو "النّموذج اللبناني المقاوم" ضدّ الاحتلال الإسرائيلي، لاستبداله بعد ذلك بنموذج "الاقتتال الدّاخلي" وصراع الطّوائف والمذاهب والمناطق، وصيغ الكانتونات الفيدرالية الخاضعة للهيمنة الخارجية، كما هو المشروع الأجنبي- الصهيوني الدائر حاليًّا لعموم المنطقة العربية.

فالحرب اللبنانية اختتمت في نهاية حقبة الثمانينات بصراعاتٍ مسلّحة داخل كلّ منطقة بين ميليشيات وقوى المنطقة نفسها. وذلك يعني أنّ المراهنين على إشعال الساحة اللبنانية يريدون حروبًا أهلية لبنانية وليس حربًا واحدة .. يريدون إظهار الصراعات الدائرة الآن بألوان سياسية (مع المقاومة أو ضدّها- مع هذا الطرف الإقليمي أو الدولي، أو ضدّه) بينما واقع الحال هو المراهنة على صراع موزاييك من القوى الطائفية والمذهبية التي لا تستبعد استخدام العنف المسلّح في أساليبها.

طبعًا، هو سؤالٌ لبنانيٌّ مشروع عن مستقبل "سلاح المقاومة" وعن ضرورة حصر العناصر المسلحة بالمؤسّسات اللبنانية الرسمية فقط، لكن هذا الأمر أصبح، كما القضايا اللبنانية الأخرى، مادّة في صراع إقليمي/دولي ومشاريع سياسية متناقضة في المنطقة ككل، عوضًا عن اعتباره مسألة وطنية عامّة اشترك كلّ لبنان في تحمّل تبعاتها خلال فترة مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، وبأنّها قضية مرتبطة حتمًا بتوفّر سياسة دفاعية لبنانية تضمن ردع أي عدوان إسرائيلي، وهو أمرٌ لم يحصل بعد.

وكم هو مؤسف التركيز الآن على طرف واحد في مسؤولية التأزّم السياسي اللبناني الحاصل وتجاهل ما جرى لحوالي نصف قرنٍ منذ العام 1975 من تداخل حروب الآخرين على الأرض اللبنانية، ومن مسؤولية إسرائيلية ودولية مباشرة عن تهجير مئات الآلاف من الفلسطينيين إلى لبنان عند تأسيس "دولة إسرائيل". فلِما التركيز فقط على "نتائج" الوجود الفلسطيني في لبنان وليس على "أسبابه"، ولماذا تتجاهل ذاكرة بعض اللبنانيين أيضاً ما قام به الكوماندوس الإسرائيلي من تدمير ل13 طائرة لبنانية في مطار بيروت يوم 28 ديسمبر عام 1968 قبل "اتفاق القاهرة" بين الجيش اللبناني و"المقاومة الفلسطينية" في العام 1969، وقبل وجود منظمات فلسطينية مسلحة في لبنان، حيث سعت إسرائيل آنذاك لتدمير الاقتصاد اللبناني الذي كان يعتمد على السياحة وعلى مطار بيروت، كما استهدفت اسرائيل بذلك أيضاً توريط لبنان بالصراع معها تمهيداً لاحتلال جنوبه لاحقاً، كما احتلت الجولان وسيناء والضفة الغربية وغزة في حرب ١٩٦٧، والتي لم يكن لبنان طرفاً فيها.

أيضا، كيف ينسى اللبنانيون ما جرى بعد الاحتلال إسرائيلي لجنوب لبنان في العام 1978 من اقامة "دولة لبنان الحر" بزعامة سعد حداد ومحاولة بدء تنفيذ المخطط الإسرائيلي بتقسيم لبنان إلى دويلات وكانتونات، كما هو المشروع الإسرئيلي للبنان منذ حقبة الخمسينات حسب وثائق الرسائل التي تبادلها بن غوريون (رئيس وزراء إسرائيل السابق) مع وزير خارجيتها آنذاك موسى شاريت، هذه الرسائل التي تحدّثت عن الأسلوب المناسب اعتماده لإنشاء دويلة على الحدود الشمالية مع لبنان تكون تابعة لإسرائيل ومدخلاً لها للهيمنة على لبنان والشرق العربي كلّه.

فإسرائيل المسؤولة عن تهجيرها لمئات الالوف من الفلسطينيين الى لبنان هي سبب ما حدث على أرضه من مشكلة "السلاح الفلسطيني" التي كانت ذريعة لبدء الحرب الأهلية عام 1975، ثمّ للحرب على لبنان عام 1978 ثمّ في العام 1982 واحتلال مناطق عديدة من اراضيه وعاصمته بيروت، ممّا سبب وجود ظاهرة المقاومة اللبنانية بعد خروج المقاتلين الفلسطينيين من معظم لبنان. فلماذا لم تتحرك القوى الدولية الكبرى، وخاصة الولايات المتحدة، للضغط على إسرائيل بعد حرب 1982، وخروج المنظمات الفلسطينية المسلحة، من اجل تنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 425 الصادر بعد اجتياح العام 1978 والذي طالب إسرائيل بالانسحاب الكامل من لبنان!. ترى لو جرى اجبار إسرائيل على تنفيذ القرار، هل كان هناك أي داعٍ لقيام مقاومة لبنانية مسلّحة؟!.

وهاهو لبنان الآن يعيش مزيجًا من تأثيرات التاريخ والجغرافيا على كيانه ونظامه، وعلى أمنه واستقراره، فماضي لبنان وتاريخ وظروف نشأة كيانه وكيفية بناء نظامه الطائفي، كلّها عناصر تاريخية سلبية دائمة التأثير في أحداثه، تمامًا كما هو أيضًا دور موقع لبنان الجغرافي، حيث الخيار هو فقط بين محيطه العربي وبوابته السورية، وبين الوجود الإسرائيلي الذي هو مصدر الخطر الدائم على أرض لبنان، وثرواته الطبيعية، وعلى وحدة شعبه.

وإذا كان اللبنانيون لا يستطيعون تغيير دور الجغرافيا في تطوّرات أوضاع كيانهم الوطني، فإنّ بإمكانهم حتمًا تصحيح الخطيئة التاريخية المستمرّة في طبيعة نظامهم الطائفي السياسي الفاسد. وعندما يفعل اللبنانيون ذلك يصونون وطنهم من الوقوع في شرك الحروب الأهلية من جديد.

إنّ الأمل بالتغيير والإصلاح في لبنان لا يمكن أن يتحقّق من خلال قيادات وآليات وقوانين انتخابية طائفية ومذهبية تصون مافيات الفساد فيه. فالوطن اللبناني الواحد بحاجة إلى وطنيين توحيديين لا طائفيين. ولن تكون هناك دولة لبنانية قوية وعادلة ما لم تقم مؤسّسات الدولة على أسس وطنية لا طائفية، فما يتمّ بناؤه على خطأ لا يمكن أن يصل إلى نتائج صحيحة. وأساس المشكلة هو في النظام السياسي الطائفي الفاسد الذي يتوارثه الزعماء السياسيون ويحرصون على استمراره حيث أنّهم به يستمرّون ويستثمرون. ففي لبنانهم: الطائفية أولًا..  والوطن أخيرًا !

لقد اقتسم الحاكمون بعد العام 1990 السلطات اللبنانية ومنافعها، وحاول كلّ طرف أن يجعل من نفسه ممثّلًا لفئة أو طائفة أو منطقة، فاستمرّت العقلية نفسها التي كانت سائدة قبل الحرب عام 1975، ونشأ جيل ما بعد الحرب في بيئة سياسية فاسدة معتقدًا أنّ المشكلة هي في "الآخر" اللبناني وفي الجهة الخارجية التي تدعمه، لكن لم يدرك هذا الجيل الجديد أنّ مشكلة وطنه ومشكلة مستقبله هي في التركيبة السياسية التي تتولّى ترميم البناء السياسي بعد كل أزمة، والتي ترفض التخلّي عن امتيازات النطق السياسي باسم هذه الطائفة أو المذهب أو المنطقة!.

الجيل اللبناني الجديد قادر على إيقاف التعامل مع الناس وكأنّهم قطيع من الغنم يسوقهم الرّاعي الطائفي بعصا أو بفتاتٍ من العشب، ثمّ يورث القطيع لمن بعده في أسرته، فيبقى الغنم غنمًا والرّاعي راعيًا!!