علي الصراف يكتب:
كيف ستنتهي هذه الحرب؟
في لحظة ما خلال الشهر المقبل، سوف يعلن الرئيس الروسي انتهاء العمليات العسكرية في أوكرانيا، بعد “تحرير” آخر المناطق المتنازع عليها في إقليم دونباس.
سوف يعلن ذلك بنفسه، لكي يضفي على الإعلان الثقل المناسب. لأنه لن يكون مجرد إعلان بوقف الحرب، وإنما تلويح ببداية حرب أخرى.
“تحرير” دونباس سيكون بالنسبة إلى فلاديمير بوتين انتصارا كافيا لحفظ ماء الوجه. وبناء عليه، فإنه سيعلن وقفا شاملا لإطلاق النار. ويتعين على أوكرانيا أن ترضخ له.
هذا الإعلان سوف يترافق أيضا مع إشارات صريحة، بأن أوكرانيا إذا قررت الاستمرار بالعمليات القتالية، فإن روسيا سوف تستخدم أسلحة نووية تكتيكية لعزل المنطقة الحدودية بين الطرفين. وسوف يستخدمها فعلا، للإشارة إلى أنه مستعد للذهاب في هذه الحرب إلى أبعد مدى، بما في ذلك اندلاع حرب عالمية تستخدم فيها روسيا كل ما لديها من أسلحة نووية.
سوف يعني ذلك انتحارا بالنسبة إلى روسيا. ولكنه سوف يعني انتحارا بالنسبة إلى الغرب أيضا.
الوقوف على حافة حرب عالمية نووية سوف يجبر الجميع على إعادة التفكير للمفاضلة بين أن يغرق العالم في الجحيم وبين أن تتوقف الحرب عند ذلك الحد.
الغرب لن يخرج مهزوما، بالضرورة، إذ سوف يظل بوسعه أن يواصل عقوباته الاقتصادية. إنما من دون أن يُجبر روسيا على دفع تعويضات لأوكرانيا، أو أن يجري تحويل ما لديها من أصول واحتياطات في الخارج إلى صندوق تعويضات كما يقترح الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي الآن.
بوتين يمتلك من الجرأة، ومن الاستعدادات الانتحارية، ما لا يملكه أي أحد من نظرائه الغربيين. ومثلما هم يحاولون البحث عن سبيل لكي يحفظوا له ماء الوجه، فإنه يفعل الشيء نفسه
الفكرة التي تدور في عقل بوتين، تقول إنه يمكن لروسيا التعايش مع حرب اقتصادية، ولكنها لا تستطيع التعايش مع حربين، عسكرية واقتصادية، في آن واحد. سوف يعني ذلك “تهديدا وجوديا” لروسيا. وهو المفهوم الذي وضعته موسكو كمعيار للحظة التي يمكن بسببها شن حرب نووية شاملة، لتكون بمثابة انتحار مشترك.
النظرية هنا، هي ما ظل بوتين يردده باستمرار والتي تقول “ما نفع العالم إذا لم تكن روسيا موجودة فيه”.
بوتين يلوح باستخدام الأسلحة النووية منذ العام 2018 على الأقل. في ذلك العام، أبلغ بوتين حشدا من مسؤولي إدارته بأن بلاده تملك ترسانة أسلحة نووية لا يمتلكها أي بلد آخر، وأن ذلك لم يكن سرياً، وأنه أبلغ “زملاءه” الغربيين “إلا أنهم لم يُصغوا إليه، ولكن عليهم أن يُصغوا الآن”.
لم تكن هناك أزمة حادة في ذلك الوقت تجبر قادة الغرب على الإصغاء. وهم تساهلوا معه عندما قامت قواته باحتلال، أو “استعادة”، شبه جزيرة القرم، واكتفوا بفرض قائمة عقوبات اقتصادية مخففة ضد روسيا. ولكن ما كان يجري في عقل بوتين كان يذهب إلى مسافة أبعد. كان يفكر، في تلك الساعة بالذات، بـ”استعادة” أوكرانيا.
روسيا بدأت منذ ذلك الوقت بتطوير ترسانتها الصاروخية التي تضم الآن سلسلة من الصواريخ الفرط صوتية. والهدف الرئيسي منها هو كسب “آلية الانتحار” من ناحية فرق الوقت بين تلقي أولى الضربات النووية، وبين التعرض للرد.
وفرق الوقت لا يزيد، في الواقع، عن عشر دقائق. إلا أنه مهم لكسب الصدمة. ولقد زادت روسيا على نحو ملفت ترسانتها من الأسلحة النووية التكتيكية، إلى درجة كان يجب أن تبرر التساؤل: إلى أين يريد أن يذهب بها بوتين؟
كان يتعين على أوكرانيا أن تستعد للمعركة في ذلك الوقت بالذات، وليس بعد مضي أربع سنوات. إلا أن “الخبراء” الغربيين وأجهزة مخابراتهم لم تنتبه للخطر.
بعض البيانات تشير إلى أن روسيا تمتلك على وجه الإجمال أكثر من 5900 رأس نووي، ولكن 1500 منها فقط جاهزة للإطلاق من منصات الصواريخ الباليستية العابرة للقارات. ومن بينها 800 صاروخ محمولة على ظهور الغواصات، و580 على قاذفات نووية. والباقي كله هو رؤوس نووية “صغيرة”، ذات قدرات تدميرية محدودة “وتستخدم للأهداف الموجودة على مسافات قصيرة”.
لم تبن روسيا هذه القدرات إلا من أجل أن تستخدمها بالفعل في ساحات المعارك عندما تجد نفسها أمام وضع يُملي عليها التعرض للهزيمة.
والهزيمة تجسدت بكامل قامتها الفارعة، عندما عجزت الدبابات الروسية عن دخول كييف، بل وعندما ظلت تعاني الفشل في الاستيلاء على مدن رئيسية على امتداد شهرين من الحرب.
التقديرات السابقة، ومنها تقديرات كاتب هذه السطور، التي كانت تقول “إن روسيا قبلت الهزيمة من قبل، ويمكن أن تقبلها من بعد” في إشارة إلى أفغانستان، سوف يثبت أنها تقديرات خاطئة.
لو كانت روسيا تنظر إلى أفغانستان نظرتها إلى أوكرانيا، فإنها لم تكن لتتردد في استخدام أسلحة نووية “تكتيكية” على الإطلاق.
أفغانستان لم تكن شأنا “وجوديا”، كما يحاول بوتين تصوير الأمر الآن بالنسبة إلى أوكرانيا. والمعركة الرئيسية هناك، إنما كانت معركة دفاع عن حكومة موالية داخل كابول، ولم تكن المناطق الريفية الأفغانية لتعني الكثير من الناحية العسكرية لكي يجوز قصفها بأسلحة من ذلك النوع.
يروق للرئيس بوتين أن يلوح بالنووي، “بمناسبة ومن دون مناسبة”. هذا ما يبدو في الظاهر. إلا أنه يعنيه دائما. ويدرك سبب الحاجة إليه. فقواته، كما اعترف بنفسه، قبل أن يبدأ الحشد ضد أوكرانيا، لا تقوى على مواجهة قوة الحلف الأطلسي التقليدية، وأشفع ذلك بالقول “ولكننا نملك أسلحة نووية متطورة أكثر مما تملكه كل الدول الأخرى”. وفي الواقع، فهو يعرف أيضا أن قواته، من الناحية التكنولوجية، لا تعدو كونها قوات عسكرية مهلهلة من عصور ما قبل التاريخ، نسبيا.
ساعة الحقيقة سوف تأتي بالنسبة إلى الغرب، بين أن يدافع عن أوكرانيا، بخوض حرب نووية ضد روسيا، وبين أن يقبل عرض وقف إطلاق النار، مكتفيا باستمرار العقوبات الاقتصادية
أحد أبرز الأمثلة، أجهزة الاتصالات داخل الدبابات الروسية التي يمكن لبعض السخرية القول إنها تعود إلى عصر ما قبل اختراع الكهرباء. وهو ما سمح للقوات الأوكرانية، ومن يساعدها، على التقاط المكالمات بين الوحدات العسكرية الروسية، مما سهل اصطيادها. حتى تعرضت الآلاف من الدبابات الروسية إلى “مجزرة” لم يسبق لأي قوة عسكرية أن تعرضت لها في غضون وقت قصير، كالوقت الذي أمضته طوابيرها وهي لا تملك بنزينا يكفي للتقدم، وجنودها لا يملكون طعاما كافيا ليأكلوا، دع عنك أن يحاربوا. وعندما اكتشف الضباط الروس سبب المأساة، صاروا يستخدمون هواتفهم النقالة، كمن يستجير من الرمضاء بالنار. فزاد عليهم البلاء ولم ينقص.
المغزى الوحيد من ذلك، هو أن روسيا لا تملك قوات تقليدية قادرة على الصمود في وجه أي قوة مجهزة تجهيزا حديثا. ما يجعل التلويح باستخدام الأسلحة النووية هو الخيار الوحيد أمامها. الوحيد فعلا.
بوتين يؤمن تماما بأنه إذا أصبحت الحرب شيئا لا مفر منه، فإنه هو من يجب أن يضرب الضربة الأولى. هذا ما فعله في أوكرانيا من الأساس. فهو أعد عدته، ووضع جيشه على أبواب أوكرانيا، بينما كان يقول لنظرائه الغربيين إنه “لا ينوي مهاجمة أوكرانيا، وأن جيشه يجري تدريبات فقط”، ولكن لم يمض يومان حتى بدأ الهجوم فعلا، لكي يكسب عنصر “المباغتة”.
صحيح أن هذا العنصر، ثبت أنه قليل الفائدة، إلا أن “المباغتة” النووية شيء آخر قطعا.
العقيدة النووية الروسية كما جسدها بوتين في خطاب أمام مجلس الدوما الروسي في مارس 2018 تقول “إن روسيا تحتفظ بحق استخدام الأسلحة النووية فقط ردا على هجوم نووي، أو هجوم بأسلحة دمار شامل أخرى ضد البلاد أو حلفائها، أو عمل عدواني ضدنا باستخدام الأسلحة التقليدية التي تهدد وجود الدولة ذاته. وعلى هذا النحو، أرى أن من واجبي أن أعلن ما يلي: إن أي استخدام للأسلحة النووية ضد روسيا أو حلفائها، سواء بأسلحة قصيرة أو متوسطة أو طويلة المدى، سيعدّ هجوما نوويا علينا، وسيكون الانتقام فوريا، مع كل ما يصاحب ذلك من عواقب. وينبغي ألا يكون هناك شك في ذلك على الإطلاق”.
وفي الثالث والعشرين من مارس الماضي، أعاد الناطق باسم الكرملين دميتري بيسكوف تأكيد هذه العقيدة، إنما بعد تجريدها من عنصر “الرد” على ضربة نووية، لتقتصر على مفهوم هجومي، استباقي، وأكثر مرونة. وقال لشبكة “سي.أن.أن” الأميركية “لدينا مفهوم للأمن الداخلي، وهو علني. يمكنكم قراءة كل الأسباب التي تدفع إلى استخدام الأسلحة النووية. لذلك إذا كان هناك تهديد وجودي لبلدنا، فيمكن استخدامها وفقا لمفهومنا”.
“التهديد الوجودي” وفقا للمفهوم الروسي، لا يشبه بالضرورة أي تصور آخر عنه. أي شيء يمكن أن يُنظر إليه على أنه “تهديد وجودي” في موسكو، بما في ذلك الهزيمة العسكرية في أوكرانيا أو الوقوع ضحية لحرب استنزاف طويلة الأمد، وهي ما يراهن عليها الحلفاء الغربيون الآن.
صديق بوتين الحميم، دكتاتور بيلاروسيا ألكسندر لوكاشينكو، الذي يؤكد أنه يعرف صاحبه أكثر من أي أحد، قال بعد أيام من اندلاع الحرب، إن على الرئيس زيلينسكي أن يرضخ لمطالب بوتين قبل فوات الأوان. وأضاف “إذا رفض زيلينسكي هذا الطلب، فسيضطر للتوقيع على اتفاقية استسلام خلال فترة قصيرة، فروسيا لن تخسر هذه الحرب… كيف تنتهي الحرب حين يفوز بها طرف واحد؟ اليابان تعرف الجواب أكثر مني”.
والجواب واضح. وهو أن تقع أوكرانيا ضحية لضربة نووية مماثلة.
بوتين لن يوجه هذه الضربة من دون إعلان مسبق بوقف إطلاق النار، لكي ترسو المعارك عند الحد الذي سوف تصل إليه بـ”تحرير” إقليم دونباس، في وقت ما خلال الشهر المقبل.
سوف يحاول أن يُملي على أوكرانيا القبول به، تحت وطأة التهديد بعزل “المناطق الحدودية” مع هذا الإقليم، بأسلحة نووية تكتيكية، بحيث لا تعود تشكل تهديدا للقوات الروسية.
ومن الناحية العملية، فإن سياسة الأرض المحروقة التي تُمارس الآن، بقصف جوي وبري لا يتوقف، تبدو وكأنها تمهيد لذلك.
وسواء تم ضم الإقليم إلى روسيا أم لا، فإن موسكو لن تتردد في الإعلان عن أن استمرار المعارك سوف يعني “تهديدا وجوديا لبلدنا”، وأنها سوف تستخدم كل ما لديها من إمكانيات لوقفه، بما في ذلك استخدام أسلحة نووية “محدودة”. وستقدم مبررات جديرة بالاعتبار لذلك. فقواتها تكون حتى تلك الساعة قد خسرت ما لا يقل عن 20 ألف جندي. وهو عدد كاف لكي يثير قلاقل داخلية جسيمة في روسيا تدفع المشاعر الانتحارية إلى أقصى مستوياتها بالنسبة إلى رجل غير مطمئن ولا يعرف إلى أين يذهب إذا ما تعرضت رئاسته هو لـ”تهديد وجودي”.
ساعة الحقيقة سوف تأتي بالنسبة إلى الغرب، بين أن يدافع عن أوكرانيا، بخوض حرب نووية ضد روسيا، وبين أن يقبل عرض وقف إطلاق النار، مكتفيا باستمرار العقوبات الاقتصادية، على أمل أن تكون تعويضا معقولا عن القبول بهزيمة شاملة ومتبادلة.
المساعي الغربية لن تتوقف من أجل “إضعاف روسيا بحيث لا يعود بوسعها شن حرب أخرى”. ولكن ذلك سوف يقتصر على مسار اقتصادي، وسيتم اعتبار الأسلحة التي تم تزويد كييف بها وسيلة “للدفاع عن النفس”، وليس لفرض هزيمة عسكرية على روسيا.
يمتلك بوتين من الجرأة، ومن الاستعدادات الانتحارية، ما لا يملكه أي أحد من نظرائه الغربيين. ومثلما هم يحاولون البحث عن سبيل لكي يحفظوا له ماء الوجه، فإنه يفعل الشيء نفسه، عندما يسمح لهم بمواصلة حربهم الاقتصادية ضد بلاده. ولكنه ليس مستعدا للقبول بخوض حربين في آن واحد.
ألمانيا وفرنسا ستكونان أول من يقبل عرض وقف إطلاق النار. وستجد واشنطن بهذا القبول مبررا لتغطية ظهرها سياسيا.
وفقا لهذه النهاية، سوف يمكن القول إن أوكرانيا التي تعايشت مع خسارة القرم، يمكنها أن تتعايش مع خسارة دونباس. ومثلما لم تقطع الأمل باستعادة الأولى، فإنها لن تقطع الأمل باستعادة الثانية.
بوتين يعرف أنه ستكون أمام بلاده معركة أخرى. ولكنه سيرضى تماما بكسب فسحة طويلة من الوقت تسمح له بالبقاء في سلطته حتى نهاية العام 2036، لأجل أن يُنظر إليه على أنه آخر القياصرة. إنما على روسيا، معزولة، لا تشبه روسيا السابقة. لا أحد في الخارج سوف يوجه لها “تهديدا وجوديا”، ولكنها في الداخل، بالكاد تملك وجودا ذا معنى.