د. حسن نافعة يكتب:
لو قرّرت إدارة بايدن عدم العودة إلى الاتفاق النووي؟
مضت شهور طويلة على بدء مفاوضات فيينا الباحثة عن صيغةٍ تضمن عودة الولايات المتحدة إلى الاتفاق النووي مع إيران. ومعروفٌ أن هذا الاتفاق أبرم عام 2015 في عهد الرئيس أوباما، ووقعته الولايات المتحدة إلى جانب باقي الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، بالإضافة إلى ألمانيا، غير أن الرئيس ترامب قرّر الانسحاب منه عام 2018، الأمر الذي اعتبره بايدن خطأ استراتيجيا، وعد إبّان حملته الانتخابية بالعمل على تصحيحه، إذا ما أصبح رئيسا للولايات المتحدة. وقد شهدت مفاوضات فيينا، والتي بدأت، بعد أشهر قليلة من دخول بايدن البيت الأبيض، حالات مدّ وجزر أمكن خلالها التغلب على عقباتٍ عديدة، ثم صدرت منذ أسابيع تصريحاتٌ تؤكد الوصول إلى حلولٍ لجميع المسائل والتعقيدات الفنية، ولم يتبق سوى اتخاذ القرارات السياسية المطلوبة، والتي تضمن عودة الولايات المتحدة إلى الالتزام بالاتفاق، بالتزامن مع رفع العقوبات "القصوى" المفروضة على إيران من ترامب، عقب قراره الانسحاب من الاتفاق. وحتى لحظة كتابة هذه السطور، لم تكن القرارات "السياسية" المطلوبة قد اتّخذت بعد، وربما لا تتّخذ أبدا، رغم أجواء التفاؤل التي سادت منذ أسابيع. ومن ثم فإن احتمال العودة الأميركية إلى اتفاق 2015 لم يعد أمرا مسلّما به. فما الذي يمكن ان يحدُث لو أن إدارة بايدن اتّخذت قرارا نهائيا بعدم العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران؟
طُرحت في الأسابيع القليلة الماضية اجتهاداتٌ كثيرةٌ تحاول تفسير الأسباب التي أدّت إلى تعثر مفاوضات فيينا، وعدم تمكّنها من التوصل إلى نتائج نهائية مرضيةٍ للطرفين، الأميركي والإيراني. يشير أحد هذه الافتراضات إلى الدور الذي لعبته إسرائيل واللوبي الصهيوني المناصر لها في واشنطن، في عرقلة التوصل إلى اتفاق. ومعروفٌ أن إسرائيل كانت من أشد الدول اعتراضا على إبرام هذا الاتفاق أصلا، ورأت فيه تهديدا وجوديا لها، ثم من أكثرها ترحيبا بقرار ترامب الانسحاب منه، وأخيرا من أكثرها تخوّفا من مفاوضات فيينا. ومن ثم، لم يكن خافيا على أحد أنها قرّرت حشد كل قواها وتعبئتها، من أجل العمل على إفشال هذه المفاوضات، إن هي هدفت إلى العودة إلى الاتفاق القديم، وراحت تبذُل كل ما تستطيع من جهد، من أجل التوصل إلى اتفاقٍ جديد، يضمن تحجيم برنامج إيران الصاروخي، والحدّ من نفوذها الإقليمي. ويرى الفريق الذي يتبنّى وجهة النظر هذه أن تمسّك إيران الصارم بالعودة إلى صيغة 2015، من دون أي تعديلٍ ساعد إسرائيل، ومعها اللوبي الصهيوني المناصر لها داخل أروقة الإدارة والكونغرس الأميركيين، على وضع كل أنواع العراقيل أمام هذه المفاوضات، إلى أن نجحا أخيرا في إفشالها. غير أن هناك اجتهادات أخرى تركّز على التأثيرات الناجمة عن الغزو الروسي لأوكرانيا، وتؤكّد أن هذا الغزو أحدث تحوّلا في البيئة الدولية دفع الولايات المتحدة إلى التمهل وعدم التعجل في العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران، رغم تباين التحليلات المتعلقة بمفاعيل هذه التأثيرات، فبينما يرى بعضهم أن حرص الولايات المتحدة على إحكام العقوبات السياسية والاقتصادية الشاملة المفروضة على روسيا بسبب هذا الغزو يدفعها إلى التقارب مع بعض الدول الأخرى المناوئة لها، ومنها إيران وفنزويلا، يرى آخرون أن هذا الحرص يدفعها، على العكس، للتقارب أكثر مع الدول الحليفة لها في منطقة الشرق الأوسط، وبالذات مع إسرائيل والسعودية.
يُبنى الافتراض الأول على أساس حاجة الولايات المتحدة لمنع بعض مناوئي سياستها من الارتماء في أحضان روسيا، ودفعهم إلى ضخّ كمياتٍ إضافيةٍ من النفط في الأسواق العالمية، أملا في إنجاح العقوبات المفروضة عليها، ويفضي إلى الاعتقاد أن بعض الآثار الناجمة عن الغزو الروسي لأوكرانيا قد تساعد على التعجيل بعودة الولايات المتحدة إلى الاتفاق النووي مع إيران. ويُبنى الافتراض الثاني على أساس أن الولايات المتحدة في حاجة أكبر للتقارب أكثر مع حلفائها التقليديين، وفي مقدّمتهم إسرائيل والسعودية، ويفضي إلى الاعتقاد أن بعض الآثار الناجمة عن الغزو الروسي لأوكرانيا سوف تؤدّي، على العكس، إلى عرقلة العودة الأميركية إلى الاتفاق النووي مع إيران، فبمقدور إسرائيل تقديم مساعدات عسكرية فعّالة لأوكرانيا، تمكّنها من الصمود أكثر، كما أن في مقدور السعودية ضخّ كميات إضافية هائلة من النفط يمكن أن تكون لها فاعلية كبيرة في إحكام الحصار المضروب على روسيا. ولأن لكلٍّ من إسرائيل والسعودية مصلحة واضحة في الضغط على إيران، لتغيير سياستها الإقليمية والحدّ من طموحات برنامجها الصاروخي، فمن الطبيعي أن يطلبا ثمنا لانحيازهما للولايات المتحدة في حربها غير المعلنة على روسيا بسبب الأزمة الأوكرانية. لذا، ليس من المستبعد أبدا أن يكون للغزو الروسي لأوكرانيا تأثيرات جانبية تدفع في اتجاه عدم العودة الأميركية إلى الاتفاق النووي مع إيران.
وأيا كان الأمر، هناك مؤشّرات عديدة تدل على أن إيران لا تبدو في عجلةٍ من أمرها، ومن ثم لا تظهر تلهفا شديدا لعودة الولايات المتحدة إلى الاتفاق النووي، رغم ترحيبها بهذه العودة إن جرت وفق شروطها هي. أما الأسباب التي تدعوها إلى عدم العجلة فهي كثيرة، أهمها سببان:
الأول: نجاح إيران في التكيف مع العقوبات الأميركية، رغم ما أحدثته من ضرر بالغ أصاب اقتصادها، وتمكنها من تحويل التحدّي إلى فرصة، والضرر إلى منفعة في بعض الأحيان، وهو نجاحٌ يعزى إلى إصرار إيران على الاعتماد على النفس، وعلى الجهود الذاتية في دفع عجلة التنمية، وتحفيز الابتكار في مختلف المجالات، وهو ما يوحي به ما أحرزته إيران من تقدّم هائل، خصوصا في مجال تكنولوجيا الصواريخ والفضاء والاتصالات، رغم العقوبات القاسية التي فرضت عليها سنوات طويلة.
الثاني: اقتناع النخبة الإيرانية الحاكمة، خصوصا بعد وصول إبراهيم رئيسي إلى السلطة، بأن مصلحة الولايات المتحدة في العودة إلى الاتفاق النووي تفوق مصلحة إيران، فعدم العودة الأميركية إلى الاتفاق النووي يتيح لإيران التحلّل من التزاماتها بموجبه، خصوصا ما يتعلق منها بتخصيب اليورانيوم، وبالتالي يمكّنها من دفع مستوى التخصيب إلى أقصى مدى تستطيع الوصول إليه، ويحول، في الوقت نفسه، دون المخاطرة بوقوع حرب أو بإعطاء الولايات المتحدة وإسرائيل ذريعة للجوء إلى القوة المسلحة ضدها.
إذا صحّت هذه الاستنتاجات، فمعنى ذلك أن عدم عودة الولايات المتحدة إلى الاتفاق النووي خلال الشهور القليلة المقبلة سيؤدّي، من ناحية، إلى استمرار العقوبات الأميركية القصوى، وإلى إقدام إيران، من ناحية أخرى، على تخصيب اليورانيوم بمعدّلات متسارعة، ونسب متصاعدة، قد تقترب من درجة 90%، ما قد يعيد المنطقة برمتها إلى أجواء التوتر الكبرى والتجاذبات العنيفة التي كانت عليها إبّان فترة إدارة ترامب. ويصعب، في ظل أجواء كتلك، توقع استمرار التهدئة القائمة حاليا في اليمن أو تمديدها، كما سيكون من الصعب مواصلة المفاوضات السعودية الإيرانية التي يقال إنها تجاوزت المستوى الفني، وباتت على وشك الارتقاء إلى المستوى السياسي. وستكون إسرائيل الدولة الأكثر سعادة بعودة هذه الأجواء المتوترة التي تساعدها على التقارب أكثر مع دول عربية عديدة في المنطقة، بدعوى أن الخطر الإيراني بات مشتركا يهدّد الجميع، ومن ثم على إسرائيل والدول العربية أن يتعاونا معا إلى أقصى مدى ممكن لمواجهته وصدّه.
على صعيد آخر، يتوقع أن يؤدّي قرار إدارة بايدن عدم العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران إلى تقارب أميركي إسرائيلي بشأن كيفية التعامل مع إيران مستقبلا، قد يصل إلى حد التطابق. وهنا سنكون أمام أحد احتمالين:
الأول: إطلاق يد إسرائيل في مباشرة أعمالها التخريبية والإرهابية المعتادة ضد إيران، بما في ذلك مواصلة الإغارة على المواقع والأهداف الإيرانية في سورية، وهي مواقع وأهداف معرّضة للازدياد في المرحلة المقبلة، بسبب اضطرار روسيا لسحب جزء من قواتها المقاتلة تحت ضغوط الحرب المشتعلة في أوكرانيا، بالتوازي مع حرص الولايات المتحدة على البقاء في خلفية المشهد، تحاشيا لأي صدام عسكري مباشر مع إيران غير مرغوب فيه في المرحلة الراهنة، خصوصا في حل استمرار الحرب وتصاعدها في أوكرانيا.
والثاني: بلورة استراتيجية أميركية إسرائيلية مشتركة في مواجهة إيران، تسمح بتوزيع متفق عليه للأدوار بين الطرفين، مع ضبط إيقاع التصعيد المتوقع لضمان عدم انفلات الأمور، مع الإبقاء على خيار احتمال شنّ عملية عسكرية مشتركة، تستهدف القضاء نهائيا على البرنامج النووي الإيراني، أو إصابته بالشلل التام فترة طويلة مقبلة، حين تصبح الظروف الدولية والإقليمية مواتية بشكل أفضل، وهذا هو الهدف الذي ظلت إسرائيل تسعى للوصول إليه منذ سنوات طويلة.
في كلتا الحالتين، ستتغير المعطيات الجيوسياسة كليا في المنطقة، خصوصا إذا أدخلنا العوامل المتصلة بالصراع العربي الإسرائيلي في الاعتبار، فسواء أطلقت يد إسرائيل وحدها للعبث في شؤون المنطقة، أو جرى الاتفاق على استراتيجية أميركية إسرائيلية مشتركة لضرب إيران، فستدخل المنطقة حتما في حالة استقطاب تام بين مشروعين: الأول، أميركي إسرائيلي يرى في إيران مصدر الخطر الرئيسي على مصالحهما في المنطقة. والثاني، مقاوم للهيمنة الأميركية الإسرائيلية في المنطقة، تقوده إيران، وقد تدخل روسيا على خطه، إذا طال الصراع المحتدم على الساحة الأوكرانية، أو تطوّر في غير صالحها.